بازگشت

الإمامة وعلم الأنبياء


عندما آلت شمس بني أمية إلي المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة.. وجد الإمام الباقر (ع) فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت (ع) من رسول الله..

في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلي معارف القرآن، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات، فعلي أي أساس نقيم هذا المجتمع الجديد.. وماهي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول..

بالأمس نشر الإمام السجاد (ع) راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته. وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام.

أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست، ويأتي الإمام الباقر (ع) ليبني عليها صرح المعارف. ويكمله الإمام الصادق (ع) ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه..

ماهي المعارف التي نشرها الإمام الباقر (ع) وكيف استطاع إليها سبيلاً؟

قد يسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلي القواعد العامة. وقد ننطلق من تلك القواعد إلي المفردات الجزئية. وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي، ومن هنا جاء في الحكمة المأثورة: العلم نقطة كثَّرها الجاهلون.

والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهج بالإيمان والإلهام في افئدة العارفين بالله.. ذلك العقل الذي أوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله الله لنبيِّه وأوصياء نبيّه. وإن توهج نور العقل عند أبناء البشر. وتجليه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهم. وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار..

كل ذلك يهدينا إلي معني العلم الكوني الذي يلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه.. وجاء في الحديث الشريف: “ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء “.

وتري بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة، والمحدثين من فقهاء الأمة.. يستشهد بقول الله سبحانه: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ» (الانعام/59)

وقوله: «قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ الله» (النمل/65)

حقّاً إذا كان مراد هؤلاء أن الإنسان لايعلم الغيب بصفة ذاتية، فإنه حق لاريب فيه، ولكن: إذا أرادوا أنَّ الله لايقدر علي تعليم الغيب لبعضهم، نقول: بلي هو قادر، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل، فمثلاً أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لاريب فيها. وان الله يبعث من في القبور. وأن الشمس تشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم، والهدف الأساسي منه؟

والله سبحانه علّم الإنسان مالا يعلم، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده.. وقد قال ربنا سبحانه: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَي مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» (الجن/26-27).

وقال: «وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَي الْغَيْبِ وَلكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (آل عمران/179)

وقال: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (آل عمران/44)

وأخيراً: إن هؤلاء شككوا في “ مدي “ علم الأنبياء والأوصياء، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة، فهم ينطلقون في تكذيب هذا “ المدي “ من العلم من ذات المنطلق الذي كذب الأولون بالنبوة، وهو الجهل بالمقام الذي جعل للإنسان الذي يتوجه إلي الله ويخلص له وجهه، بيد أن هؤلاء “ اضطروا “ إلي الإعتراف بالنبوة، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلي أقل قدر ممكن، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أني استطاعوا إلي ذلك سبيلاً، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلي الأوصياء فنفوا كرامتهم علي الله، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً، وإذا أنصفوا أنفسهم وأنصفوا للحق لما وجدوا مانعاً عقلياً من الإعتراف بذلك، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصب أعمي أو أحكام مسبقة.

وقد ابتلي الإمام الباقر (ع)، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام بنمطين متنافرين من الناس، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم.

من النمط الأول كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب علي الإمام الباقر (ع)، حتي قال عنه الإمام لبعض أصحابه (سليمان اللَّبان): أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد:

قال قلت: لا.

قال: مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال الله «ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ». (الاعراف/175) [1] .

أما النمط الثاني فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون، وكرامته علي الله، واستجابة الله دعاءه في الأمور!!

فهؤلاء لاينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط، بل ويرون أنها من المستحيلات، لماذا؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء الله وأوليائه عليهم صلوات الله ومعرفة كرامتهم علي الله. ولو كانوا يتفكرون في خلق الإنسان وكيف استخلفه الله في الأرض، وسخر له ما فيها بما آتاه من علم وقدرة، لعرفوا أن من حكمة الله سبحانه أن يفضل بعض الناس علي بعض في العلم، وليهب لمن أطاعه وأخلص له المزيد من المعرفة سواء عبر الوحي كالرسل أو عبر الإلهام، كما فعل بأوصياء الرسل.

ثم إن ما أوحي به الله من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، لأنه نور الله الذي يشع من مشكاة النبوة. إنه ذكر الله الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه:

«الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ» (النور/35).

قال: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله» (النور/36-37).

ثم قال: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ» (النور/40).

هكذا نور الله الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان، فإذا به يعرف علما يسخر به كل شيء من حوله، إنه لو سلب منه تري ماذا يبقي له؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً. فلو اجتمعت البشرية وحاولوا إعادة مجنون إلي رشده. أو شيخ مخرف إلي سابق علم، أو تعليم هرة دروس الرياضيات، هل استطاعوا إلي ذلك سبيلاً؟ كلا.. فلماذا ينكرون علي الله الذي منح البشر هذا النور أن يكون قادراً علي مضاعفته لخيرة عباده؟

هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن الله في خلقه، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب.

وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لايخرج من دائرة هذه السنن أيضاً، فإما أنَّه مستوحيً من الوحي أو بالإلهام.

ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية:

أولاً: العلم من كتاب الله. بالتدبر فيه وتأويل آياته علي الحقائق والوقائع. أليس في القرآن علم ما كان وما يكون، وفصل ما هو كائن، ومن أولي بكتاب الله ممن أنزل في بيوتهم وزقوا علمه مع اللبن زقاً.

وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوله بالقرآن، عظيمي الإحترام له، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة، وربما في كل يوم، وكانوا يقولون أنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قرائته حتي أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة، فقد قال الإمام الصادق (ع) - فيما روي عنه -:

والله إني - أعلم ما في السماوات وأعلم ما في الأرض وأعلم ما في الدنيا وأعلم ما في الآخرة -.

فرأي تغير جماعة - فقال وهو يخاطب بكير بن أعين:

يا بكير إني لأعلم ذلك من كتاب الله تعالي إذ يقول: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» [2] .

ثانيا: أحاديث الرسول (ص) والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلي الإمام أمير المؤمنين، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم االسلام جميعاً.

فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لجابر بن عبد الله:

يا جابر إنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم [3] .

ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلي رسول الله. وورثها أهل بيته (ع). ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم.

حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إن عندي الجفر الأبيض.

فلما سأله الرواي وأي شيء فيه؟ قال:

زبور داود وتوراة موسي وإنجيل عيسي وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلي أحد، حتي أن فيه الْجُلدة ونصف الْجَلدة وثُلث الْجَلدة وربع الْجَلدة وأَرشُ الخدش، الحديث [4] .

وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي.

منها مصحف فاطمة وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين (ع) في صحيفة، وحسب ما جاء في رواية أن فيه ما يكون من حوادث وأسماء من يملك إلي أن تقوم الساعة [5] .

كما أن من تراثهم كتاب يسمي بالجامعة، وهو من إملاء رسول الله (ص) وكتابة أمير المؤمنين (ع)

طوله سبعون ذراعاً وفيه أحكام الشريعة كلها.

هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:

سمعته يقول وذكَّر ابن بسترمه في مسألة أفتي بها: أين هو من الجامعة إملاء رسول الله بخط علي فيها جميع الحلال والحرام حتي أرش الخدش [6] .

وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً علي أنه وصيه. لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر (ع) أن والده الإمام السجاد (ع) التفت إلي ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده، ثم التفت إلي محمد بن علي ابنه. فقال:

يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلي بيتك ثم قال.. أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً.

ونتساءل: كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعا؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً علي أصول العلم ومعاقله وضيائه، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم. كما علَّم النبي (ص) الإمام علياً (ع) أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة، حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع): أوصي رسول الله إلي علي بألف كلمة يفتح كل كلمة ألف كلمة [7] .

وفي تعبير آخر جاء علي لسان الإمام الباقر (ع) عن جده أمير المؤمنين أنه قال: لقد علمني رسول الله ألف باب يفتح كل باب ألف باب [8] .

وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرسول (ص)، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال:

“ إن رسول الله أنال في الناس وأنال وأنال، وإنَّا أهل بيت عندنا معاقل العلم، وأبواب الحكم، وضياء الأمر.. “.

وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “ إن رسول الله قد أنال في الناس وأنال وأنال، - يشير كذا وكذا - وعندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه “ [9] .


پاورقي

[1] بحار الأنوار: (ج 46، ص 332).

[2] بحار الأنوار: (ج 26، ص 28).

[3] المصدر: (ص 28).

[4] المصدر: (ص 37).

[5] المصدر: (ص 37).

[6] المصدر: (ص 18).

[7] بحار الأنوار: (ج 46، ص 229).

[8] بحار الأنوار: (ج 26، ص 29).

[9] المصدر: (ص 31) والأواخي جمع أوخية وهي ما يشد به الدابة أي ما يحفظ به العلم.