بازگشت

علم الإلهام


إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه،

هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله.

كذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع، قال: أما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكث في القلوب فإلهام، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك.

وروي زرارة مثل هذا الحديث وأضاف: قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لايري الشخص قال..

إنه يلقي عليه السكينة فيعلم أنه من الملك، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع. وإن كان الشيطان - يأزره - لايتعرض لصد هذا الأمر [1] .

وعلم الإمام الباقر (ع) - كما سائر أئمة الهدي انبعث من هذه الروافد، فلم يكن غريباً، ما أظهر الله علي لسانه من معارف الدين حتي قال الشيخ المفيد (قدس سره). لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه [2] .

من هنا تري عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة عن الحكم بن عتيبة (وكان من كبار فقهاء عصره) أنه قال في تفسير قوله تعالي: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» (الحجر/75).

قال: كان والله محمد بن علي منهم [3] .

وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه، فقال اذهب إلي ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك، وأشار إلي الباقر (ع) فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال: إنهم أهل بيت مفهمون [4] .

والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند الله يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام.

ولذلك تري من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتي روي عن عبد الله بن عطاء أنه قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (ع)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه [5] .

وقد روي عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث، أما جابر الجعفي فقد قال: حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً [6] .

ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسني للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلي جادة الصواب، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة علي ما وراءها من الحجج البالغة.

1- لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (ع) وأهل بيته، وكان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه، فقيل له ولا ولده، فقال أفي ولده عالم فقيل له هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم؟ قال فمن عالمهم اليوم؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتي أتي المدينة، فاستأذن علي أبي جعفر فقيل له هذا عبد الله بن نافع، قال: وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار، فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه، فقال له أبو جعفر: أتراه جاءني مناظراً؟. قال: نعم!. قال: يا غلام، اخرجْ فحط رحله، وقل له إذا كان الغد فائتنا، فلما أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلي جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلي الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد الله وأثني عليه وصلي علي رسوله (ص) ثم قال: الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد الله أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين “ حتي انتهوا إلي حديث خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّاراً غير فرار لا يرجع حتي يفتح الله علي يديه “ فقال أبو جعفر (ع) ما تقول في هذا الحديث؟ قال: هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد، فقال له أبو جعفر: ثكلتك أمك، أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم، فإن قلت لا كفرت، فقال: قد علم، قال: فأحبه الله علي أن يعمل بطاعته أو علي أن يعمل بمعصيته، فقال: علي أن يعمل بطاعته، فقال له أبو جعفر: فقم مخصوماً، فقام وهو يقول حتي يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الله أعلم حيث يجعل رسالته [7] .

2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلي رؤية الإمام الباقر (ع) ومناظرته، حيث كانت المدينة المنورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهية، ولذلك فقد انتشر علم الإمام إلي كل الآفاق..

من هنا جاء قتادة إلي المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال: ويحك يا قتادة إن الله عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً عي خلقه فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلةً عن يمين عرشه. فسكت قتادة طويلاً ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك، فقال له أبو جعفر: أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأنت ثم ونحن أولئك. فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك ماهي بيوت حجارة ولا طين، قال: فأخبرني عن الجبن، فتبسم أبو جعفر وقال: رجعت مسائلك إلي هذا، قال: ضلت عني، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت، قال: ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم، ثم قال: وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر: ولِمَ؟ قال: لأنها من الميتة، قال له: فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال: نعم قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة، ثم قال: فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه [8] .

3- وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتي سمي باقراً، فقد جاء في لسان العرب أنَّه لقب به (أي بالباقر) لأنه بقر العلم، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه. والتبقر التوسع [9] .

وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة: سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف، وحقائق الأحكام والحكم، ولطائف مالا يخفي إلاّ علي متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه [10] .

وقد أفاض الإمام علي المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار وآخرين.

كما أنه نشر العلم عبر من روي عنه من علماء عصره من أمثال: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي. وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والبطري والبلاذري والسلامي

والخطيب وغيرهم [11] .

وكان الولاة يجأرون إلي أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم.

من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال:

دخلت علي الرشيد ذات يوم وهو في (إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت يا سيدي هو عبد الملك بن مروان! قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة! فقال: سأخبرك: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا علي دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي علي ما كان عليه إلي أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلي طرازه فأمر أن يترجم إلي العربية ففعل ذلك، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلي عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز علي ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و «شَهِدَ الله أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» (آل عمران/18)، وهذا طراز القراطيس خاصة إلي هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلي عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلي بلاد الروم، أنتشر خبرها ووصل إلي ملكهم، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلي عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلي أن أبطلته، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلي ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية، فانصرف بها إلي صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلي عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلي ما كان عليه أولاً، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت علي سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلي ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلي ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقي علي الحال بيني وبينك، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت علي رسول الله (ص) من شتم هذا الكافر ما يبقي غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، قال ويحك من؟ قال: الباقر من أهل بيت النبي (ص) قال: صدقت ولكن أُرتج عليّ الراي فيه فكتب إلي عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكّرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه، واحتبس الرسول قبله إلي موافاته عليه، فلما وافي أخبره الخبر فقال له الباقر (ع):

لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين:

(احداهما) أن الله عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (ص).

(والأخري) وجود الحيلة فيه، قال: وماهي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (ص)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلي وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلي زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم علي وزن عشرة والدنانير علي وزن سبعة مثاقيل، وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية (نوش خر) أي كل هنيئاً، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس.

ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلي الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلي مواضع العمل حتي تعاد إلي السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك، ويقول: إن الله عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلي عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية، فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال: إنما اردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال. وثبت ما اشار به محمد بن علي بن الحسين إلي اليوم ثم رمي يعني الرشيد بالدرهم إلي بعض الخدم [12] .

إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل، إنه كان وراء إرشاده إلي السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم.

وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم.

وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن الله، وبالتوسم بنور الله وبتأييد ملائكة الله.

وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (ع) بالذات.

فقد روي الحلبي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: دخل الناس علي أبي (الإمام الباقر) وقالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً، لأن رسول الله (ص) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام، قالوا: فيعرف شيعته؟ قال: نعم ساعة يراهم، قالوا: فنحن لك شيعة؟ قال: نعم كلكم قالوا: أخبرنا بعلامة ذلك قال: أخبركم باسماءكم وأسماء آبائكم وقبائلكم؟ قالوا: أخبرنا، فأخبرهم، قالوا: صدقت، (قال:) وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالي: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ» (ابراهيم/24) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا، ثم قال: يقنعكم؟ قالوا: في دون هذا نقنع [13] .

وينقل عبد الله بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلي الإمام الباقر (ع)، فلم يأبه بها الإمام لأن الله أطلعه علي أنه معزول قريبا، يقول سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (ع) أنه كان علي المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وماعنده أحد من الناس، فقال: يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك، وإني قد علمت أنه لايبلغ عني غيرك، فأحببت أن تلقي عمَّيْك محمد بن علي وزيد بن الحسين (ع) وتقول لهما: يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما، أو لتنكران، فخرجت متوجهاً إلي ابي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلي المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال: بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال: القَ عمَّيك فقل لهما كذا؟ قال: أخبرني ابو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً، ثم قال: يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد، فإنه معزول ومنفي إلي بلاد مصر والله ما أنا بساحر ولا كاهن، ولكني أتيت وحدثت، قال: فوالله ما أتي عليه اليوم الثاني حتي ورد عليه عزله ونفيه إلي مصر وولي المدينة غيره [14] .

أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (ع) يراقبه ويؤدبه يقول:

كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء، فلما دخلت علي أبي جعفر عاتبني وقال: من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ الله به، أي شيء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي حياءً وتبت فقال أبو جعفر: لا تعد [15] .

ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول: كنت مع الباقر في مسجد رسول الله (ص) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (ع) إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلي ولد العباس، وما قعد إلي الباقر إلاّ داود فقال الباقر (ع): ما منع الدوانيقي أن يأتي؟ قال: فيه جفاء، قال الباقر (ع): تذهب الأيام حتي يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتي يجمع من كنوز الأموال مالم يجتمع لأحد قبله، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال: ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود؟ فقال: هو كائن، قال: وملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم، قال: يملك بعدي أحد من ولدي؟ قال: نعم، قال: فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا؟ قال: مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة، هذا ما عهده إليّ أبي، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (ع) [16] .


پاورقي

[1] المصدر: (ص 60).

[2] في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر: (ص 7).

[3] المصدر: (ص 6).

[4] المصدر.

[5] المصدر.

[6] المصدر.

[7] المصدر: (ص 9).

[8] المصدر: (ص 10 / 11).

[9] المصدر: (ص 40).

[10] المصدر.

[11] المصدر: (ص 17).

[12] المصدر: (13 - 16).

[13] بحار الأنوار: (ج 46، ص 244).

[14] المصدر: (ص 246).

[15] المصدر: (ص 247).

[16] المصدر: (ص 249).