بازگشت

خصال الإمام


لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة. ويجعله حجة بالغة علي خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة. وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره. وتعظيمه وتجليله. وإخلاص العبودية له والتي تتجلي في جملة أقواله وأفعاله. فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً.

وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (ع) الحميدة، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا علي أمثالها، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها. أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة، كلا.. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (ع).

وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها.

“ قال: ابن شهراشوب في المناقب “: كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة علي غيره من الأيام، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا، وكان كثير الذكر، كان يمشي وإنه ليذكر الله ويأكل الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتي تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر، ويأتي قول المفيد: وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلي الستمائة إلي الألف، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه، وكان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني. وقال الأبي في كتاب نثر الدرر: كان إذا رأي مبتلي أخفي الاستعاذة، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول: سموهم بأحسن أسمائهم [1] .

وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت: الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر [2] .

وكان من شدة خشوعه ما يذكره (أفلح) مولي أبي جعفر أنه قال: خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلي البيت فبكي حتي علا صوته، فقلت: بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً [3] فقال لي: ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل الله تعالي أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً، قال (أفلح) ثم طاف بالبيت ثم جاء حتي ركع عند المقام فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائلاً: كان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني [4] .

ويقول نجلُه الإمام الصادق (ع) وهو يصف تبتل والده إلي الله: كان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر الله، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله. وكنت أري لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا الله إلاّ الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتي تطلع الشمس، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر [5] .

ويقول الإمام الصادق (ع):

إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتي يأتي، فإذا أوي إلي فراشه ونام قمت إلي فراشي. وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول: سبحانك اللهم أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك تعبداً ورقاً، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم [6] .

وكان (ع) شديد الحب لكتاب ربه، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته، حتي أن أبان بن ميمون القداح قال: قال لي أبو جعفر (ع): إقرأ. قلت: من أي شيء أقرا؟. قال: من السورة التاسعة؟ قال: فجمعت ارتمسها فقال: اقرأ من سورة يونس فقال.. قرأت «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَي وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ» (يونس/26) قال: حسبك، قال: قال رسول الله (ص): إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن [7] .

وكان يستلهم من كتاب ربه معارف الدين حتي أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن، هكذا يروي أبو الجارود قال: قال أبو جعفر (ع): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله. ثم قال: حتي حديثه أن الله نهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال: فقالوا يابن رسول الله وأين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ» (النساء/114) وقال: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً» (النساء/5) وقال: «لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (المائدة/101) [8] .

وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقر (ع) كيف أصبحت: قال: “ أصبحنا غرقي في النعمة، موتورين بالذنوب، يتحبب إلينا إلهنا

بالنعم، ونتمقت إليه بالمعاصي، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا “ [9] .

وكان (ع) شديد التسليم لأمر الله فقد روي بعض أصحابه أنه قال: كان قوم أتوا أبا جعفر (ع): فوافَوا صبياً له مريضاً، فرأوا منه اهتماماً وغماً، وجعل لا يقر (قال) فقالوا: والله لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نري منه ما نكره، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها، فقالوا له: جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نري منك أن لو وقع ان نري منك ما يغمنا، فقال لهم: إنا لنحب أن نعافي في من نحب، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما يحب [10] .

وكان (ع) لا يلويه عن العمل الصالح شيء. وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول: - حضر أبو جعفر (ع) جنازة رجل من قريش وأنا معه، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء: لتسكتن أو لنرجعن، قال: فلم تسكت فرجع عطاء قال: فقلت لأبي جعفر (ع) إن عطاء قد يرجع، قال: ولِمَ؟ قلت: صرخت هذه الصارخة فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن؟ فلم تسكت فرجع، “ فقال: إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم، قال: فلما صلي علي الجنازة قال وليها لأبي جعفر: إرجع مأجوراً رحمك الله فإنك لا تقوي علي المشي، فأبي أن يرجع، قال فقلت له: قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها، فقال: إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر علي ذلك [11] .

أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول: كنت زميل أبي جعفر (ع) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو “ فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه، وصافح، قال: وكان إذا أنزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو علي الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه، فقلت يابن رسول الله إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا، وإن فعل مرة لكثير، فقال:

أما علمت ما في المصافحة، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر والله ينظر إليهما حتي يفترقان [12] .

وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً، وكان يعفو عن السيئة أني استطاع إلي ذلك سبيلاً، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس، فقد قال له نصراني يوماً: أنت بقر قال: لا أنا باقر قال: أنت ابن الطباخة (يريد تعييره بها) قال: تلك حرفتها، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية؟ قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فانبهر النصراني بأخلاقه، ودعاه ذلك إلي الإسلام علي يديه [13] .

وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق، وقد روي عن نجله الإمام الصادق (ع) أنه قال:

إذا استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه، قال: وإن كان أبي (الإمام الباقر عليه السلام) ليأمرهم فيقول كما أنتم، فيأتي فينظر، فإن كان ثقيلاً قال باسم الله ثم عمل معهم، وإن كان خفيفاً تنحي عنهم [14] .

وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة، حيث كان الأئمة (ع) يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلي الله.

في ذلك يروي أبو عبد الله الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول: ما كنت أري أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتي رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن اعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء يعظك؟ قال: خرجت إلي بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ علي غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً، فقلت أصلحك الله يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت علي هذه الحال؟ قال: فخلي عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالي أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا علي معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني [15] .

وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه، إلاّ أنه أحب أن يراه الله كاداً في سبيل إعاشة عياله.

ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (ع) يقول:

أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمسك خيارهم. فقلت: يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء؟ فقال: إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا [16] .

هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد.. فسلام الله عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.


پاورقي

[1] في رحاب أئمة أهل البيت سيرة الباقر: (ص 6).

[2] بحار الأنوار: (ج 46، ص 289) نقلاً عن حلية الأولياء: (ج 3 ص 180).

[3] الظاهر خفضت والله العالم.

[4] المصدر: (ص 290).

[5] المصدر: (ص 297).

[6] المصدر: (ص 301).

[7] المصدر: (ص 303).

[8] المصدر: (ص 303).

[9] المصدر: (ص 304).

[10] المصدر: (ص 301).

[11] المصدر: (ص 301).

[12] المصدر: (ص 302).

[13] المصدر: (ص 289).

[14] المصدر: (ص 303).

[15] المصدر: (ص 287).

[16] المصدر: (ص 300).