بازگشت

وفاته


بعد ثمانية عشر عاماً تصدي خلالها للإمامة الإسلامية، استجاب لنداء ربه الحق، فلبَّاه راضياً مرضياً، وقد قضي من عمره المبارك سبعاً وخمسين ربيعاً.

في غرة رجب من عام 114 للهجرة كان أهل بيته يحفّون به وكان السم الذي دس غليه من خلال سرج امتطاه قد انتشر في جسده فالتفت إلي نجله ووصيه الإمام الصادق (ع) وقال:

سمعت علي بن الحسين ناداني من وراء الجدران يا محمد تعال عجل، وقال: يا بني هذا الليلة التي وعدتها وقد كان وضوءه قريباً، قال: أريقوه أريقوه فظن بعضهم أنه يقول: من الخمس فقال يا بني أرقه فأرقناه فإذا فيه فأرة.

وأوصي ابنه الإمام جعفر بن محمد بأن يكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له جدة كان يصلي فيه يوم الجمعة، وثوب آخر وقميص، وأوصي أن يشق له القبر شقاً، واضاف فإن قيل لكم أن رسول الله لحد له فقد صدقوا.

وأوصي أن يرفع أربع أصابع، وأن يرش بالماء، وأن يوقف من أمواله قدراً لكي تندبه النوادب بمني عشر سنين أيام المني.

ولما توفي ضجت المدينة المنورة. ويروي عن الإمام الصادق (ع):

أن رجلاً كان علي بعد أميال من المدينة فرأي في منامه أنه قيل له: انطلق فصل علي أبي جعفر: فإن الملائكة تغسله، فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفي.

وبعد تجهيزه دفن في البقيع عند قبر والده الإمام زين العابدين وعم أبيه الإمام الحسن المجتبي [1] .

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات مسموماً ويوم يبعث حيّاً.

كلماته المضيئة:

لقد فاضت بكلماته المضيئة كتب المعارف، أولم يكن باقر العلم في أهل بيت الرسالة؟ ولكننا نقتبس منها قبسات لعل الله ينور بها قلوبنا ويبصرنا حقائق أنفسنا ويهدينا إلي الصراط القويم.

تعال نستمع معاً إلي وصيته الرشيدة التي ألقاها إلي جابر بن يزيد الجعفي:

“ أوصيك بخمس: إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كذبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع، وفكر فيما قيل فيك فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جل وعز عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت علي خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تتعب بدنك، واعلم أنك لا تكون لنا ولياً حتي لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن أعرض نفسك علي كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر فإنه لايضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبايناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها علي هواها، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها، فينعشه الله فينتعش ويقيل الله عثرته فيتذكر، ويفزع إلي التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن الله يقول: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُبْصِرُونَ» (الاعراف/201)، يا جابر استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلّصاً إلي الشكر واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراء علي النفس وتعرّضاً للعفو، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف وتَوقّ مجازفة الهوي بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوي باسترشاد العلم، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلي راحة النفس بصحة التفويض، وتعرض لرقة القب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكي، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار، وتعرض للرحمة وعفو الله بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر واطلب بقاء العز بإماتة الطمع، وارفع ذلك الطمع بعز اليأس، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة، وتزود من الدنيا بقصر الأمل وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، وإياك والثقة بغير المأمون، واعلم أنه لا علم كطلب السلامة، ولا عقل كمخالفة الهوي، ولا فقر كفقر القلب، ولا غني كغني النفس، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا عدل كالإنصاف، ولا جور كموافقة الهوي، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا معصية كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوي، ولا قوة كرد الغضب، ولا ذل كذل الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة، فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران.

وقال (ع): خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وإن لم يعمل بها، فإن الله يقول: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله» (الزمر/18)، ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً، درهم يفني بعشرة تبقي إلي سبعمائة ضعف مضاعفة، إنما أنت لص من لصوص الذنوب كلما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه فارتكبته كأنّك لست بعين الله أو كأن الله ليس لك بالمرصاد، يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكل مطيتك وأوهي همتك فللّه أنت من طالب ومطلوب، ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها، وما أكسبك لما يوقعك فيها [2] .


پاورقي

[1] هناك بعض الإختلافات في تفاصيل وفاته وسني عمره وما نقلناه استعرناه من جملة روايات تجدها في بحار الأنوار: (ج 46، ص 112 - 220).

[2] في رحاب أهل البيت سيرة الامام الباقر (ع): (ص 21 - 22).