بازگشت

العصر العلمي في عهد الامام الباقر


و لاشك أن تبدل أدوار أئمة الهدي عليهم السلام خلال العصور المتعاقبة كانت له تأثيرات عميقة في التأريخ الشيعي الامامي. فكان الامام عليه السلام - و ضمن تصميم الهي منسجم مع حاجات البشرية - يقوم بأداء دور مرسوم متوافق مع الحياة الاجتماعية و الدينية للافراد. فقد كان محور حياة الامام السجاد عليه السلام الاتصال بالله سبحانه و تعالي عبر الدعاء و المناجاة. و ما أن اكتمل ذلك العصر المشحون بالعواطف الجياشة و الاتصالات الروحية بموجد الكون و الحياة و الانسان، حتي بدأ عصر الامام الباقر عليه السلام المحمل بمعاني التأسيس العلمي لفقه أهل البيت عليهم السلام. و هو تأسيس متصل بعلم النبي صلي الله عليه و آله في قضايا التكاليف الشرعية و الالزامات الأخلاقية التي جاء بها الاسلام.

و قد كان عصر الباقر عليه السلام يمثل الوجود العلمي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام بكل ما تمثله الكلمة من معاني. فقد كان الامام الخامس عليه السلام منهلا



[ صفحه 15]



لجميع المسلمين، علي اختلاف توجهاتهم الفكرية و التأريخية. و حتي أن الذين اختطوا لانفسهم طريقا جديدا بل غريبا عن روح الاسلام في الاستنباط و القياس و ساروا علي طريق موالاة و مداهنة السلطة الظالمة، استفادوا من فكر الامام الباقر عليه السلام و أحاديثه الشرعية المتصلة بالسند الصحيح بجده رسول الله صلي الله عليه و آله. ف«سفيان بن عيينة» (ت 198 ه) المشهور بمحدث مكة، و «ابوحنيفة» (ت 159 ه) رائد مدرسة القياس التي حرمها أئمة أهل البيت عليه السلام، و «سفيان الثوري» (ت 161 ه)، انتهلوا كلهم من علوم الباقر عليه السلام بما ينفع مقاصدهم. و بكلمة، فان الامام عليه السلام كان رافدا عظيما للعلم النبوي الشريف و علوم التفسير و بيان الأحكام. و كان أيضا صمام الأمان لفحص الانحرافات الشرعية و فضحها أمام الملاء بكل ما اوتي من قدرة بالغة في البيان و الخطاب التكليفي الملزم للافراد.

أما عشاق الولاية و خط الاسلام الأصيل ك«أبان بن تغلب» (ت 141 ه)، و «زرارة بن أعين» (ت 150 ه - )، و «محمد بن مسلم» (ت 150 ه) فقد كانوا درعا حصينا لصيانة أحاديث محمد بن علي عليه السلام من مطبات التزوير و التلفيق التي كانت السلطة الأموية جاهدة في ممارستها. و قد كان من ثمرات محافظتهم علي تراث الامام عليه السلام الفكري، أن وصل الينا تراث أهل بيت النبوة عليه السلام بأمانة عبر الأجيال المتعاقبة.

و قد كان الامام الباقر عليه السلام صريحا في اعلان مهمته الشرعية في الحفاظ علي الرسالة السماوية من خلال عرض نصوص في توضيح الأحكام و التفسير و نقل الأحاديث النبوية التي حاولت السلطات السياسية تحريفها. فكان له دور تأريخي علي صعيد ربط زمان النبي صلي الله عليه و آله بالأزمان المتعاقبة بجسر من النصوص الشرعية التي تستطيع معالجة جميع مشاكل الحياة الانسانية علي وجه الأرض. فالامام عليه السلام يخاطب أصحابه بالقول : «... انظروا أمرنا و ما جاءكم عنا، فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، و ان لم تجدوه موافقا فردوه، و ان اشتبه الأمر



[ صفحه 16]



عليكم فقفوا عنده و ردوه الينا حتي نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا...». و هذا النص يعكس مركزية القرآن المجيد في الأحكام الشرعية التي جاءت بها العترة الطاهرة. و يعكس ايضا فكرة مفادها أن الدور الشرعي للعترة الذي صممه لها الخالق عزوجل انما يصب في اطار التفاعل مع الكتاب المجيد و ادراك معانيه الواقعية في الخلق و التكوين و البعث و الانشاء و العدالة الاجتماعية و توزيع الحقوق و فرض الواجبات الشرعية علي الافراد. فلا ريب أن نري التلازم العقلي و الشرعي بين القرآن الكريم و العترة المطهرة قائما منذ بيعة الغدير و سيبقي قائما ما دام البشر يعيشون علي وجه هذه الأرض.

و لم يكن الجانب العلمي للامام الباقر عليه السلام نظريا بحتا، بل كان - في الواقع - أخلاقيا تربويا بالاضافة الي نزعته الالزامية التكليفية. فقد كانت أفكاره الفقهية التي تعبر عن روح النص الشرعي، تنزع نحو التربية الأخلاقية و بناء الالزام الذاتي عند الفرد. خصوصا فيما يتعلق بتربية الذات كطلب العلم، و الايمان، و الولاية، و الصبر، و العفو، و الرفق، و التواضع، و الاخوة و نحوها من الصفات الأخلاقية التي تساهم بشكل حاسم و فعال في بناء ذات المؤمن علي النقاء و الطهارة و الفهم النفسي الداخلي للأشياء الخارجية.

و قد استثمر الامام الباقر عليه السلام جميع الوسائل الفكرية المتاحة في سبيل نشر الرسالة العلمية و الاجتماعية للدين. فاهتمام الاسلام بالنظام الاجتماعي، الي جانب النزعة الروحية، يعبر عن اهتمام الدين بقضايا الحقوق و الواجبات التي أهملها حكام بني امية من أجل مصالح القلة القبلية المنتفعة علي حساب الفقراء و السمتضعفين. و كان استمرار التذكير بمطالبة أئمة أهل البيت عليهم السلام، و منهم الامام الباقر عليه السلام، بالولاية الشرعية ينبع من تلك القاعدة. فانهم عليهم السلام كانوا يرون - و من خلال وظيفتهم الشرعية - الاحساس بالمسؤولية في احقاق الحقوق و تعيين الواجبات بين جميع أفراد الأمة الاسلامية. و نحن لسنا بصدد بحث هذا الموضوع الآن. ولكن ما نريد ان نقوله أن علم الامام الباقر عليه السلام بقضية



[ صفحه 17]



النظام الاجتماعي و مشاكل الظلم و انعدام العدالة، دفعه لممارسة شتي النشاطات في الاتصال الفكري.

فقد كانت له مراسلات فقهية و فكرية مع العديد من الأقطاب ك«سعد بن عبدالملك» الملقب ب«سعد الخير»، و «عبدالله بن المبارك»، و «هشام بن عبدالملك»، و «عمر بن عبدالعزيز». و كانت له احتجاجات فكرية و كلامية مع حكام الجور ك«هشام بن عبدالملك» المشار اليه آنفا، و مع فقهاء الخط الأموي ك«نافع ابن عبدالله بن الأزرق»، و «عبدالله بن معمر الليثي»، و «طاووس اليماني»، و «الحسن البصري». و كانت له وصايا الي «عمر بن عبدالعزيز»الخليفة الأموي. و كانت له توجيهات شرعية و أخلاقية الي أصحابه ك«جابر بن يزيد الجعفي»، و «أبي بصير»، و «أبي حمزة الثمالي». و كانت له أجوبة شرعية و تفسيرية للأسئلة التي كانت ترده من علماء النصاري، و من الخوارج، و من أهل الخلاف. بل انه عليه السلام تدخل في عهد «عبدالملك بن مروان» (ت 86 ه) بقضية وضع العملة النقدية الاسلامية مشفوعة بشعار التوحيد و النبوة، و بذلك أحبط الخطة الرومية في زعزعة النظام المالي للمسلمين، و ليس النظام المالي للسلطة الأموية كما قد يظن.

و لم يترك الامام الباقر عليه السلام اسلوب الاتصال بالامة عن الطريق الذي تعارف عليه الافراد في ذلك الزمان و هو طريق الشعر و الشعراء. و يكفينا قراءة آثار شعراء أهل البيت عليهم السلام كالكميت الأسدي الحميري (ت 126 ه)، و كثير عزة الخزاعي (ت 105 ه)، و الفرزدق التميمي المغيري (ت ه) لنري طبيعة التأثير الذي كان يتركه ذلك اللون من الاتصال الجماهيري بين الامة و قائدها. و لم تهمل الشريعة دور الشعر في ايصال المراد من الأفكار الايمانية، بل أيدته الي أبعد الحدود، و استثنت من ذلك الشعر الذي يؤدي الي الفساد الأخلاقي



[ صفحه 18]



و الغي المشار اليه في قوله تعالي : (و الشعراء يتبعهم الغاوون...) [1] فقد ورد عن رسول الله صلي الله عليه و آله أنه قال لحسان بن ثابت : «انك لاتزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك و قلت فينا» [2] و قال تعالي بعد ذكر الشعر المذموم و الانكار علي الشعراء الذين بنوا صناعتهم علي الغواية و خلاف الرشد : (... الا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ذكروا الله كثيرا...) [3] و بقي الشعر وسيلة من وسائل الايصال الفكري لعقائد و مناقب أهل البيت عليهم السلام حتي ظهور وسائل الاتصال الحديثة التي قللت من دور الشعر في الايصال ولكنها لم تقلل من محتواه الفكري و التعبيري المتصل بعناصر الجمال و الابداع.


پاورقي

[1] سورة الشعراء : 224.

[2] كتاب «الفتوح» لابن أعثم الكوفي ج 8 ص 275.

[3] سورة الشعراء : 227.