بازگشت

مدرسة القياس في الاستنباط


و كان أبوحنيفة، النعمان بن ثابت (ت 150 ه) زعيما بارزا لمدرسة «القياس». و قد حاولت تلك المدرسة استنباط الأحكام الشرعية باستخدام علل ثابتة لأحكام شرعية اخري. كما اذا قال الشارع عزوجل : «حرمت الخمر لاسكارها». فان أباحنيفة أعلن بأنه يستطيع استخراج الحكم الشرعي لسوائل اخري بالقياس علي قول الشارع بالشكل التالي : «الخمر أصل، و الحرمة حكمه، و الاسكار علتها، فاذا وجد الاسكار في النبيذ (و هو الفرع) فقد ثبتت الحرمة له بالقياس».

فكانت تلك الطريقة التي حملت الفرع الفقهي علي الأصل، محل نقاش في أصل شرعية الدليل. و قد أورد الشيخ محمد أبوزهرة (ت 1394 ه) مناقشة مزعومة جرت بين الامام الباقر عليه السلام و أبي حنيفة حول القياس [1] سنتعرض لتفصيلها لاحقا. ولكن لم يرد في كتب الشيعة ما يؤيد ذلك. الا أن عدم ايراد المناقشة في كتبنا لايدل علي عدم العمل بالقياس في مدرسة أهل الحديث السنية زمن الامام الباقر عليه السلام. بل كانت تلك المدرسة نشطة في بث آرائها الجديدة حول ذلك اللون من الاستنباط المزعوم. و من الجدير بالذكر أن أباحنيفة كان قد بلغ من العمر سنة وفاة الامام الباقر عليه السلام حوالي (34) سنة. فيحتمل ورود ما يدل علي حملة شديدة حملها الامام عليه السلام علي فكرة «القياس» في الشريعة.

و قد شن أئمة أهل البيت عليه السلام من بعد الباقر عليه السلام حربا علي تلك الطريقة



[ صفحه 24]



باعتبار «أن دين الله لم يوضع في الرأي و القياس» [2] ، و «أن السنة اذا قيست محق الدين» [3] فالقياس الذي مارسه أبوحنيفة، كان يشكل خطرا جسيما علي الدين لأنه - لو قدر له الانتصار - لفسح المجال للتلاعب بالأحكام الشرعية بحجة موافقة أو مخالفة القياس. فيتبدل حكم الله في ميراث الرجل - بموجب القياس - من سهمين الي سهم واحد، لأن الذكر أقوي من الانثي و لا يحتاج الي سهمين. و يتبدل حكم الله في الحائض - بموجب القياس - الي قضاء الصلاة بدل قضاء الصوم، لأن الصلاة أكبر من الصوم. و يتبدل حكم الله في الوضوء للبول و الغسل للمني - بموجب القياس - الي غسل للبول و وضوء للمني، لأن البول أنجس من المني، و هكذا. و هذا الطريق مخالف تماما للاصول الشرعية في فهم الأحكام. فاننا - كبشر - لانستطيع أن ندرك جميع علل الأحكام الشرعية. و هذا هو معني قوله عليه السلام : «ان دين الله لم يوضع في الرأي و القياس»، لأن ملاكات الأحكام أمور توقيفية من وضع الشارع، و لا تدرك بالنظر العقلي الا من طريق الملازمات العقلية القطعية. و القياس يشك بحجيته، علي أقل التقادير، و الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.

و قد كان وقوف أئمة أهل البيت عليه السلام ضد فكرة «القياس» في الاجتهاد يعبر عن صيانة واقعية للأحكام الشرعية منذ ذلك العصر ولحد يومنا هذا.


پاورقي

[1] «الامام الصادق (ع)» - محمد أبوزهرة ص 22.

[2] «الوسائل» - ابواب صفات القاضي باب 6. ج 18 ص 29.

[3] «الاصول من الكافي» - كتاب فضل العلم. ج 1 ص 57.