بازگشت

المقدمة الؤلف


بسم الله الرحمن الرحيم

رب اشرح لي صدري - و يسرلي أمري - و احلل عقدة من لساني - يفقهوا قولي [1] .

الامام أبوجعفر محمد بن علي الباقر عليهماالسلام، النجم الخامس من اعلام العترة الطاهرة، و من الرواد الأول لرجالات الفكر و الدراية و العلم و الفقه في الاسلام، فقد قام بدور ايجابي فعال في تكوين الثقافة الاسلامية، و تأسيس الحركة العلمية و نهضتها الفكرية و قد تفرغ لبث العلوم و اشاعتها بين المسلمين في وقت كان خمول الفكر و جموده قد ضرب نطاقه في جميع انحاء العالم الاسلامي، و لم تعد هناك أية نهضة فكرية أو علمية، أيام حكم بني امية.

فقد انشغلت الامة بثورات متلاحقة، و انتفاضات شعبية متعددة كان مبعثها التخلص من جور الحكم الأموي البغيض و اضطهاده، أو طمع البعض في تسنم سدة الحكم، و اهملت من جراء ذلك الحياة العلمية اهمالا تاما و انحسرت فلم يعد لها أي ظل علي مسرح الحياة.

و ابتعد الامام الباقر عليه السلام عن تلكم التيارات السياسية المتطاحنة ابتعادا كليا فلم يشترك بأي نشاط سياسي يصطدم مع الحكم القائم آنذاك، و اتجه بكل ما يملك من ملكات الي تأسيس قواعد العلم، و ارساء اصوله، و رفع مناره، فكان



[ صفحه 30]



المرجع الأول، و المعلم الفذ، و القائد الملهم لهذه الأمة في مسيرتها الثقافية في عصره، و قد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية مما اعتبره الرواد حجر الزاوية و عاملا جوهريا في انعاش و تقدم و ازدهار الحياة العلمية الاسلامية، و تكوين حضارتها المشرقة للأجيال الصاعدة.

و كان من أهم ما عني به الامام ابوجعفر الباقر عليه السلام نشر فقه آل محمد صلي الله عليه و آله الذي يحمل روح الاسلام و جوهره، و تفاعله مع الحياة فسهر علي احيائه و شيد مدرسته الكبري التي زخرت بكبار الفقهاء و المجتهدين امثال أبان بن تغلب و جابر الجعفي، و محمد بن مسلم، و بريدة، و أبي بصير الأسدي، و الفضيل بن يسار، و زرارة بن أعين، و معروف بن خربوذ و غيرهم و هم الذين أجمع العلماء علي تصديق أقوالهم و الاقرار لهم بالفضيلة و الفقه و صدق الحديث و اليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، و هم من الاصول الأربعمائة، و لولاهم لضاعت تلكم الثروة العلمية، و التراث الحضاري، و الفكر النير الذي استنار به العالم الاسلامي من بعدهم.

و تعتبر مدرسة الامام الباقر عليه السلام حجر الزاوية و احدي المدارس الأساسية لفقهاء شيعة أهل البيت عليهم السلام و استنباطهم للاحكام الشرعية.

و الذي يدعو الي الاعتزاز في تبني الامام عليه السلام مثل هؤلاء الفقهاء و الاشادة بهم و تعزيز مراكزهم، و ارجاع الأمة الي فتاواهم، قوله عليه السلام لأبان بن تغلب :

اجلس في مسجد المدينة، و أفت الناس فاني احب أن يري في شيعتي مثلك [2] .

كما قام الامام عليه السلام بتسديد نفقات طلابه و ما يحتاجون اليه في حياتهم المعاشية ليتفرغوا الي تحصيل العلم، و التفقه فيه، و ضبط قواعده و تدوينه، و عهد من بعده الي ولده الامام الصادق عليه السلام برعايتهم و الانفاق عليهم، حتي لا تشغلم الحياة المادية المعاشية عن القيام باداء مهامهم.



[ صفحه 31]



و قد قاموا بدور بناء في تدوين الحديث، كما اخذوا يلقون علي البعثات الدينية ما رووه عنه.

و لم يقتصر الامام عليه السلام في تدريسه، و بحوثه، و محاضراته، علي الفقه و الحديث، و الاصول الاسلامي فحسب، و انما خاض النواحي الاخري من العلوم، كالفلسفة و علم الكلام، و الطب، و الاخلاق و غيرها، و اما تفسيره للقرآن الكريم فقد استوعب اهتمامه كله، و قد دون اكثر المفسرين ما يذهب اليه في تفسيره و ما يرويه عن آبائه عليهم السلام، و تحدث عليه السلام بصورة موضوعية و شاملة عن السيرة النبوية، و شرح سيرة جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، و حروبه و مغازيه، كما روي الكثير من فصول واقعة كربلاء. روي عنه ابن هشام، و الواقدي، و الحلبي، و غيرهم من المدونين للسيرة النبوية، و ما يتعلق بآداب السلوك، و حسن الأخلاق، و ما يتصف به المسلم من الصفات الحميدة التي تجعله انموذجا و قدوة لغيره.

كما روي عنه بصورة شاملة الأحداث التاريخية التي جرت في العصر الاسلامي الأول. الطبري في تاريخه، و البلاذري في انسابه. و غيرهم، و ناظر عليه السلام بعض العلماء من النصاري، و الازارقة، و جادل الملحدين، و قاوم الغلاوة، و قد خرج من مناظراته منتصرا ظافرا قد اعترف له الخصم بقدراته العلمية، و العجز عن مجاراته. و لقد ترك الامام عليه السلام ثروة فكرية هائلة تعد من أنفس ذخائر الفكر الاسلامي، و من كنوز الثروات العلمية في العالم، و كان عليه السلام من عمالقة الفكر و العلم، و من ابرز أئمة المسلمين، و قد اوقف حياته كلها لنشر العلم و اذاعته بين الناس، فقد أسس مدرسته في يثرب، فكانت كالبحر الزاخر يغذي طلابه من رجال الفكر، و رواد العلم بفقهه و علمه، علي اساس ما بناه ابوه الامام زين العابدين السجاد عليه السلام. و ليس بمقدور الباحث أو المحقق تسجيل جميع مآثره من العلوم و المعارف، فان ذلك يستدعي وضع عدة مجلدات، و لذا اشرنا الي بعضها، علي سبيل المثال.



[ صفحه 32]



و من عظيم اخلاق الامام عليه السلام تجرده عن كل نزعة مادية أو ذاتية، فكان في سلوكه يمثل الروح الاسلامية، و هدفه هداية الناس و غايته تهذيب اخلاقهم.

و قد اجمع المؤرخون علي ان اكثر اوقاته عليه السلام كان مشتغلا بها بذكر الله تعالي في عبادته و تهجده، و كان يقضي لياليه ساهرا في صلاته و مناجاته شأنه في ذلك شأن آبائه الطاهرين الذين هم مصابيح الهدي و اعلام التقي، أما زهده في الدنيا و ابتعاده عن جميع ملاذ الحياة و زخرفها فيتمثل باتجاهه بكل كيانه بقلبه و عواطفه الي الله سبحانه و تعالي، فلم ينقد لأية نزعة من نزعات الهوي، و انما تحرر منها كاملا، و لم يعد لها أي تأثير أو سلطان عليه.

لقد كانت سيرة الامام عليه السلام تحاكي سيرة جده الرسول الأعظم و سيرة آبائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، في جميع مكوناتها و ذاتياتها.

و لقد امتحن الامام عليه السلام و هو في غضارة الصبا و لما يبلغ الخامسة من عمره الشريف امتحانا شاقا و عسيرا، فقد شاهد الرزايا و المحن التي مرت علي جده الامام الحسين و أبيه و أهل البيت عليهم السلام، و أصحابهم من صنوف المصائب و الرزايا في كربلاء أرض الطفوف، يوم عاشورا من قتل و تنكيل و ما جري بعدها من الأسر مصحوبا بالذل و الهوان، و غير ذلك من الكوارث التي من هولها تذوب القلوب و تنهد الجبال، فقد تركت في نفسه تلك الكوارث و الحوادث المؤلمة اللوعة و الأسي، و جرحا لايندمل طول حياته عليه السلام، فلم يهنأ بعيش و لم تطب له الحياة.

و من الكوارث التي تركت أثرها العميق في نفسه الشريفة و هو لا يزال في غضارة الصبا، واقعة الحرة في المدينة المنورة، التي انتهك فيها الجيش الأموي بقيادة المجرم مسرف بن عقبة بأمر من طاغيته يزيد الخمور و الفجور مدينة الرسول صلي الله عليه و آله فهتك الاعراض، و ازهق النفوس و الأرواح لاسيما الاطفال و الشيوخ منهم، و نهب الأموال، و اباح المدينة ثلاثة أيام بلياليها لجنده، و لم تبق حرمة لله و لرسوله صلي الله عليه و آله الا انتهكها، و لم ينج من أهوال تلكم الكوارث



[ صفحه 33]



و المصائب الا الامام زين العابدين عليه السلام و من لاذ بداره و كان ذلك بوصية من الطاغية يزيد الي جلاده المسرف الأثيم فتركت هذه الصورة المأساوية الحزينة في نفس الامام عليه السلام شعورا بالأسي و اللوعة مدي حياته.

و كان عصر الامام عليه السلام الأول أحرج و أدق العصور التي مرت علي المسلمين في حياتهم منذ انبثاق فجر الاسلام، من جراء جرائم الحكم الأموي و ظلمه، فقد تفجرت البلاد الاسلامية قاطبة عن بركان هائل من الثورات علي سياسة الحكم الأموي البغيض اللا أخلاقي.

و لابد لنا ان نذكر الأحداث التي عاصرها الامام عليه السلام و السياسية منها التي جرت في ذلك العصر، حتي يمكننا ان نتوصل الي دراسة تحليلية عن حياة الامام عليه السلام و نلقي بعض الضوء عليها.

لم تحظ المكتبة العربية و الاسلامية بدراسة مفصلة عن حياة هذا الامام الفذ العظيم، الذي هو من المؤسسين في التكوين الحضاري لهذه الأمة، و ليس من الوفاء ان نهمل حياة عظمائنا، في حين ان الأمم الحية قد عنيت بتخليد عظمائها و الاشادة بهم.

يقول الكاتب المصري «عباس محمود العقاد» : «ان الأوربيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم، و يستقصي نواحي مجدهم، بل قد دعتهم العصبية احيانا ان يتزايدوا في نواحي هذه العظمة، و يعملوا الخيال في تبرير العيب و تكميل النقص تحميسا للنفس و اثارة لطلب الكمال، اما نحن فقد كان بيننا و بين عظمائنا سدود و حواجز حالت بين شبابنا و الاستفادة منهم».

و من أحق بالاشادة من أئمة أهل البيت عليهم السلام لاسيما و امامنا العظيم محمد بن علي الباقر عليه السلام الذي هو ابرز العباقرة و القادة الطليعيين في العالم، و في هذه الامة في زمانه الذي كان من بعض مآثره و خدماته تحرير الأمة اقتصاديا، و استقلال النقد الاسلامي من السيطرة الاجنبية المرتبطة بالامبراطورية البيزنطية الرومانية، و سنذكر تفصيل ذلك ان شاءالله.



[ صفحه 34]



و بحمدالله و توفيقه تشرفت في البحث عن سيرة هذا الامام العظيم، فقد عكفت علي مراجعة جملة كبيرة من المصادر الموثوق بها، و تدوين بعض مآثره و حكمه، و انا علي يقين من ان الباحث المتتبع مهما تعمق في بحثه لم يدرك المعشار في ما كتب و نقل عن حياة هذا الامام العظيم عليه السلام لما قد خفي عليه الكثير من جوانب حياته الشريفة مما ضاع أو طمس أو لم يدون.

و لا أدعي أني قد أحطت بترجمة حياته عليه السلام أو دونت معظم مآثره و انما القيت أضواء علي شخصيته الفذة، المتعددة الجوانب، و تركت الباب مفتوحا لغيري من المحققين و الباحثين للكشف عن حياته عليه السلام.

و هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القاري ء هو صورة مصغرة عن حياة الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام الحافلة بالفضائل و المآثر و المكارم التي ورثها كابرا عن كابر.

و لا غرو فهو سيد أهل زمانه، و حفيد الحسين العظيم و سبط الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و امتدادا لرسالة السماء.

و ما احوجنا اليوم للسير علي منهاجه، و منهاج السلف الصالح من آبائه و ابنائه الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

و نحن اذ نتطلع الي مستقبل زاهر مشرق، يجب ان نأخذ من حياته و حياة آبائه و ابنائه الطاهرين المواعظ، و العبر، و الدروس، و ان نستلهم من سيرتهم المجيدة المثل العليا، لتحقيق ما نصبو اليه في اصلاح انفسنا، لنعيد مجدنا التليد. (و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون)

و آخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين و الصلاة و السلام علي خير خلقه محمد و آله الطاهرين.

الخاتم من شهر ذي الحجة الحرام

من سنة 1415 ه المساوي 1995

حسين الشاكري

دار الهجرة - قم المقدسة



[ صفحه 35]




پاورقي

[1] سورة طه : 20 / 25 - 28.

[2] النجاشي / 28، جامع الرواة 1 / 9.