شهادته
و أبدي زيد من البسالة و البطولة ما يفوق حد الوصف، فقد أخذ يلاحق الجيوش و ينزل بها أفدح الخسائر، و لم يستطع الجيش الاموي أن يصمد أمام الضربات المتلاحقة التي يصبها عليهم زيد، و كان يحمل عليهم و يتمثل بقول الشاعر :
أذل الحياة و عز الممات
و كلا أراه طعاما و بيلا
فان كان لابد من واحد
فسيري الي الموت سيرا جميلا
لقد آثر زيد عز الممات علي ذل الحياة كما آثر ذلك آباؤه فلم يخضع للذل و العبودية، و مات عزيزا تحت ظلال السيوف و الرماح.
و لما جنح الليل رمي زيد بسهم غادر فأصاب جبهته [1] و وصل الي دماغه الشريف الذي ما فكر الا في صالح الانسان و سعادته.
و حلت الكارثة بأصحابه، و هاموا في تيارات مذهلة من الأسي و الحزن، و طلبوا له طبيبا فانتزع منه السهم فتوفي من فوره، و قد انطفأت بذلك الشعلة الوهاجة التي كانت تضي ء الطريق و توضح القصد للمسلمين.
لقد استشهد زيد من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الارض، و يحقق للمسلمين الفرص المتكافئة، و يوزع خيرات الارض علي الفقراء
[ صفحه 74]
و المحرومين الذين كفرت السلطة الأموية بجميع حقوقهم.
و يقول المؤرخون : ان أصحاب زيد حاروا في أمر مواراة جثمانه خوفا عليه من السلطة التي لا تتورع عن التمثيل الآثم به، و بعد المداولة صمموا علي مواراته في نهر هناك، فانطلقوا الي النهر فقطعوا ماءه و حفروا فيه قبرا و واروا الجسد الطاهر فيه، ثم أجروا الماء، و انصرفوا و هم يذرفون الدموع علي القائد العظيم الذي تبني حقوق المظلومين و المضطهدين.
و كان مع أصحاب زيد أحد عيون السلطة يراقب تحركاتهم، فبادر مسرعا الي الكوفة و اخبر حاكمها بموضع الدفن، فأمر بنبش القبر و اخراج الجثمان الشريف منه فاخرج، و حمل الي قصر الكوفة، و أمر بصلبه منكوسا في سوق الكناسة و عمدوا الي احتزاز رأسه الشريف، و ارسل الي طاغية الشام هشام بن عبدالملك.
و أمر الطاغية بنصب الرأس الشريف علي باب دمشق، ثم أرسل الي المدينة [2] فنصب عند قبر النبي صلي الله عليه و آله يوما و ليلة [3] ثم أرسله الي مصر، كل ذلك لاذاعة الخوف و الارهاب بين الناس، و اعلامهم علي قدرة السلطة علي سحق أية معارضة تقوم ضدها.
و كتب طاغية دمشق الي السفاك يوسف بن عمر حاكم الكوفة بأن يبقي زيدا مصلوبا، و لا ينزله عن خشبته قاصدا بذلك اذلال العلويين و الاستهانة بشيعتهم، و قد فاته ان ذلك قد أوقد نار الثورة في نفوسهم، و زادهم عزما و تصميما علي التضحية في سبيل مبادئهم.
و قد افتخر الامويون بابقاء جثة زيد مصلوبة، و قد اغتر بذلك و غد من عملائهم و هو الحكيم بن عياش بقوله :
[ صفحه 75]
صلبنا لكم زيدا علي جذع نخلة
و لم نر مهديا علي الجذع يصلب
و قستم بعثمان عليا سفاهة
و عثمان خير من علي و أطيب
أقول : حفنة من التراب في فيه فان زيدا انما صلب دفاعا عن حقوق المظلومين و المضطهدين.
و لما بلغ هذا الشعر الامام أباعبدالله الصادق تألم أشد ما يكون التألم و رفع يديه بالدعاء قائلا : «اللهم ان كان عبدك كاذبا فسلط عليه كلبك» و استجاب الله دعاء الامام فافترسه أسد و هو يدور في سكك الكوفة و لما انتهي خبره الي الامام سجد لله شاكرا و هو يقول : الحمدلله الذي انجزنا وعده [4] .
و سخط المسلمون لمقتل الشهيد العظيم زيد، و نقموا علي بني أمية أشد ما تكون النقمة فقد انتهكوا في قتله حرمة الرسول صلي الله عليه و آله التي هي أولي بالرعاية و العطف من كل شي ء.
لقد كانت فاجعة زيد المروعة من الاحداث الجسام التي ذعر منها المسلمون، و استعظموها و قد اندفع شعراؤهم الي رثائه بما صور مدي الحزن و اللوعة التي مني بها المسلمون، يقول الفضل بن العباس :
الا يا عين لا ترقي وجودي
بدمعك ليس ذا حين الجمود
غداة ابن النبي أبوحسين
صليب بالكناسة فوق عود
يظل علي عمودهم و يمسي
بنفسي أعظم فوق العمود
تعدي الكافر الجبار فيه
فأخرجه من القبر اللحيد
فظلوا ينبشون أباحسين
خضيبا بينهم بدم جسيد
فطال به تلعبهم عتوا
و ما قدروا علي الروح الصعيد
و جاور في الجنان بني أبيه
و اجدادا هم خير الجدود
فكم من والد لأبي حسين
من الشهداء أو عم شهيد
[ صفحه 76]
و من ابناء اعمام سيلقي
هم أولي به عند الورود
دماء معشر نكثوا أباه
حسينا بعد توكيد العهود
فسار اليهم حتي أتاهم
فما أرعوا علي تلك العقود [5] .
هذا بعض القصيدة و قد صور فيها الشاعر حزنه العميق علي الشهيد العظيم الذي ثكل به المسلمون فهو يطلب من عينيه أن تجودا بالدموع، و ممن رثي زيدا بذوب روحه أبوثميلة الأبار التي مطلعها :
أباالحسين أعار فقدك لوعة
من يلق ما لا قيت منها يكمد
فغدا السهاد و لو سواك رمت به
الأقدار حيث رمت به لم يشهد
پاورقي
[1] يرجع في تفصيل الحادث المؤلم الي كتاب زيد الشهيد للسيد عبدالرزاق المقرم، و ثورة زيد بن علي لناجي حسن، والي عقائد الزيدية للشيخ محمد باقر القريشي.
[2] الطبرسي 8 / 77.
[3] عمدة الطالب 258.
[4] السيرة الحلبية 1 / 327.
[5] مقاتل الطالبيين 148 - 149.