بازگشت

في رحاب الامام


حينما نستعرض سيرة الامام الباقر عليه السلام لابد لنا من وقفات علي بعض المصاديق العملية لمعالم شخصيته الفذة، التي ملأت فم الدنيا بسموها الشاهق، و أبهرت الخلائق باشراقة نورها الساطع، حتي لم يعد خافيا فضله و جلالة قدره، و سمو منزلته، و تربعه علي قمة العلم بكل ما حوي من حقول المعرفة، فحفظ لنا التاريخ بعضا من اشعاعات تلك السيرة الوضاءة المعطاء، رغم محاولات بعض الحاقدين طمس الحقائق و صرف أنظار الناس عن فضائل أهل البيت عليهم السلام و مناقبهم، حتي ان الأعداء و المخالفين - و ما أكثرهم - اعترفوا صاغرين بمكانة الامام و شرفه السامق، و ان الناس مهما بلغت بهم ذروة العلياء هم دون الامام الباقر عليه السلام بمراتب و عيال عليه.

فذاك محمد بن المنكدر [1] أحد أقطاب التصوف، الذي آثر العزلة عن الحياة الدنيا، و سلك اتجاها اتكاليا في أموره المعاشية علي سواه من الناس متذرعا بالانصراف للعبادة فحسب، الأمر الذي لا يقره الاسلام الحنيف [2] كان يقول : ما كنت أري أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا - لفضل علي بن الحسين -



[ صفحه 92]



حتي رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني [3] .

فقال له أصحابه : بأي شي ء و عظك؟

قال : خرجت الي بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيت محمد بن علي عليهماالسلام، و كان رجلا بدينا و هو متكي ء علي غلامين له أسودين أو موليين له، فقلت في نفسي، شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه، فسلم علي ببهر و قد تصبب عرقا.

فقلت : أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت و أنت علي هذه الحال!

قال : فخلي عن الغلامين من يده، ثم تساند و قال : لو جاءني و الله الموت و أنا في هذه الحال جاءني و أنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك و عن الناس، و انما كنت أخاف الموت لو جاءني و أنا علي معصية من معاصي الله.

فقلت : يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني [4] .

و هذا عبدالله بن عمر بن الخطاب يسأل عن مسألة، فيعجز عن الاجابة عنها - و كذلك كان أبوه من قبل - فيرشد سائلها الي الامام الباقر عليه السلام و هو يومذاك صبي يافع يلازم أباه في مسجد جده رسول الله صلي الله عليه و آله، الذي لم يكن مسجدا و حسب. بل يمكن القول انه كان مدرسة جامعة يلتقي بها المسلمون و من مختلف الطبقات و الأجناس يتداولون به أمور دينهم و دنياهم، فهو ملتقي



[ صفحه 93]



الآيب، و موئل الصادي و كهف الملهوف، و محطة العابر، و منتدي أحكام الشريعة. و هو أول مسجد أسس علي التقوي بعد مسجد قبا، و هو بعد كل هذا و ذاك قد ضم ترابه أقدس جسد لأشرف مخلوق عرفته الأرض و السماء. و لهذا كله يجد السائل - كل سائل - ضالته فيه و منهم سائل ابن عمر بن الخطاب المندهش من عدم استطاعة شيخ كبير و عجزة عن اجابة سؤاله، و لابد أنه قد علم أنه ابن خليفة رسول الله صلي الله عليه و آله، و لذا خصه بالسؤال، ثم يطلب منه اعلامه بالجواب كي لا يبقي جاهلا به فيأتي السائل الي الباقر عليه السلام فيري الاجابة حاضرة لديه، ثم يعود الي ابن عمر ليخبره بما جني من ثمرات السؤال، فيعلق ابن عمر علي ذلك بقوله : انهم أهل بيت مفهمون.

و أما قول عبدالله بن عطاء المكي : ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، و لقد رأيت الحكم بن عتيبة - مع جلالته في القوم - بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه [5] ، فلما لمس من علو مكانة الامام و رفيع منزلته بين علماء عصره، و أنه ليس له قرين و لا يدانيه أحد في الفقاهة و المجد، و أني له من قرين؟!

و جريا علي العادة في القاء الضوء علي بعض معالم الشخصيات العظيمة، لابد و أن ينصب حديثنا - عن الامام الذي نتناول سيرته بالبحث - في هذا الفصل علي ابراز بعض المصاديق مصاديق العلمية في معالم شخصية الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام، تبيانا لسموها الشاهق، و تدبرا فيها، من أجل العظة، علها تعيننا علي سلوك درب الذين أنعم الله تعالي عليهم، فرفعوا راية الهدي خفاقة علي ظهر هذا الكوكب، و الباقر منهم في الصميم [6] .



[ صفحه 94]




پاورقي

[1] و قيل ابن المكندر.

[2] سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام 2 : 263.

[3] الارشاد / المفيد 2 : 161.

[4] الارشاد / المفيد 2 : 161، و رواه الكليني في الكافي بسند آخر 5 : 73 / 10، و الطوسي في التهذيب 6 : 325 / 894، و المناقب 4 : 201، و البحار 46 : 287، و ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : 210.

[5] الارشاد / المفيد 2 : 160.

[6] سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام 2 : 254.