بازگشت

نبوغ و ذكاء و قاد


لقد خص الله تعالي أهل بيت نبيه - صلوات الله عليهم أجمعين - بالعلم و الفضل، و وهبهم درجات من الكمال لا يهبها الا لأنبيائه و رسله. و كان الامام الباقر عليه السلام في طفولته آية من آيات النبوغ و الذكاء، و قد عرف الصحابة و التابعون ما يتمتع به الامام عليه السلام منذ نعومة أظفاره من سعة الاطلاع و الفضل و غزارة العلم، فكانوا يرجعون اليه في المسائل المستعصية التي لايهتدون اليها، و لقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها و لم يك يتجاوز عمره الشريف تسع سنوات.

و روي الصفار في البصائر عن أحمد بن موسي، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن عمرو بن خليفة، عن شيبة بن القبض، عن محمد بن مسلم قال : سمعت اباجعفر عليه السلام يقول : يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل شي ء، ان هذا لهو الفضل المبين.

و رواه أبونعيم في حلية الأولياء عن محمد بن مسلم أيضا.

و يذكر الشيخ باقر القرشي في كتابه حياة الامام محمد الباقر عليه السلام أن جابر بن عبدالله الأنصاري علي شيخوخته و كبر سنه - حيث قارب عمره المئة أو جاوزها - كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه. و قد اخذ جابر بن سعة علوم الامام و معارفه و طفق يقول : يا باقر العلم لقد أوتيت الحكم صبيا.

و ما اشارته علي عبدالملك بن مروان (ت / 86 ه) الحاكم الأموي حينما حوصر اقتصاديا من قبل النصاري المتمثلة قوتهم آنذاك بالامبراطورية الرومانية البيزنطية، بأن يضرب النقد الاسلامي من الذهب و الفضة، الا واحدة من حدة



[ صفحه 95]



ذكاء الامام عليه السلام و فطنته.

و تتوارد الأسئلة تتري علي الامام عليه السلام من علماء عصره فيلقون الجواب حاضرا عنده دون أن يعمل في ذلك فكره. فهذا نافع بن الأزرق (ت / 65 ه) زعيم الأزارقة الخوارج يسارع و يتسرع في سؤال الباقر عليه السلام عن الله عزوجل متي كان؟ ظنا منه بأنه سيحرجه بالاجابة، و الامام يومذاك لم يكن قد أكمل العقد الأول من عمره. و يأتيه الجواب سريعا مسكتا بأن : قل لي أيها السائل : متي لم يكن، حتي اخبرك متي كان؟!! سبحان من لم يزل و لا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا [1] .

و يروي أن عمرو بن عبيد، و هو من أئمة الاعتزال و مفكريهم، و فد علي محمد بن علي الباقر عليه السلام لامتحانه بالسؤال أيضا، فقال له :

جعلت فداك ما معني قوله تعالي :

(أو لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما)، ما هذا الرتق؟ و ما هذا الفتق؟ قال أبوجعفر عليه السلام : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر، و كانت الأرض رتقا لا تخرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، و فتق الأرض بالنبات. فانقطع عمرو و لم يعترض بشي ء.

و عاد اليه مرة أخري، و قال : خبرني جعلت فداك عن قوله تعالي :

(و من يحلل عليه غضبي فقد هوي)، ما ذلك الغضب؟

قال عليه السلام : العذاب يا عمرو، و انما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشي ء فيستفزه، و يغيره عن الحال التي هو بها الي غيرها. فمن زعم أن الله يغيره الغضب و الرضا و يزول عن هذا فقد وصفه بصفة المخلوق.

و عن أبي بصير قال : كان مولانا أبوجعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام جالسا في الحرم و حوله عصابة من أوليائه، اذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من



[ صفحه 96]



أصحابه ثم قال لأبي جعفر عليه السلام :

أتأذن لي في السؤال؟

فقال عليه السلام : أذنا لك فسل.

قال : أخبرني متي هلك ثلث الناس؟

قال عليه السلام : و همت يا شيخ، أردت أن تقول : «متي هلك ربع الناس»؟ و ذلك يوم قتل قابيل هابيل، كانوا أربعة : آدم و حواء و قابيل و هابيل فهلك ربعهم.

فقال : أصبت و وهمت أنا، فأيهما كان أبا للناس القاتل أو المقتول؟

قال عليه السلام : لا واحد منهما، بل أبوهم شيث بن آدم. [ابن نزلة السماء].

قال : فلم سمي آدم آدم؟

قال عليه السلام : لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلي.

قال : و لم سميت حواء حواء؟

قال عليه السلام : لأنها خلقت من ضلع حي، يعني ضلع آدم.

قال : فلم سمي ابليس ابليس؟

قال عليه السلام : لأنه أبلس من رحمة الله عزوجل فلايرجوها.

قال : فلم سمي الجن جنا؟

قال عليه السلام : لأنهم استجنوا فلم يروا.

قال : فأخبرني عن أول كذبة كذبت، و من صاحبها؟

قال عليه السلام : ابليس حين قال : (أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين).

قال : فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق و كانوا كاذبين؟

قال عليه السلام : المنافقون حين قالوا لرسول الله صلي الله عليه و آله : نشهد انك لرسول الله فأنزل الله عزوجل :



[ صفحه 97]



(اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله و الله يعلم انك لرسوله و الله يشهد ان المنافقين لكاذبون).

قال : فأخبرني عن طائر طار مرة و لم يطر قبلها و لا بعدها، ذكره الله عزوجل في القرآن ما هو؟

فقال عليه السلام : طور سيناء، أطاره الله عزوجل علي بني اسرائيل حين أظلهم بجناح منه، فيه ألوان العذاب، حتي قبلوا التوراة، و ذلك قوله عزوجل : (و اذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم) الآية.

قال : فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالي ليس من الجن، و لا من الانس، و لا من الملائكة، ذكره الله تعالي في كتابه.

قال عليه السلام : الغراب، حين بعثه الله عزوجل ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله. قال الله عزوجل :

(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه).

قال : فأخبرني عمن أنذر قومه ليس من الجن و لا من الانس و لا من الملائكة، ذكره الله عزوجل في كتابه؟

قال عليه السلام : النملة حين قالت :

(يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون).

قال : فأخبرني عمن كذب عليه، ليس من الجن و لا من الانس و لا من الملائكة، ذكره الله عزوجل في كتابه؟

قال عليه السلام : الذئب الذي كذب عليه اخوة يوسف.

قال : فأخبرني عن شي ء قليله حلال و كثيره حرام، ذكره الله عزوجل في كتابه؟

قال عليه السلام : نهر طالوت، قال الله عزوجل : (الا من اغترف غرفة بيده).



[ صفحه 98]



قال : فأخبرني عن صلاة فريضة تصلي بغير وضوء، و عن صوم لايحجز عن أكل و لا شرب؟

قال عليه السلام : أما الصلاة بغير وضوء : فالصلاة علي النبي و آله صلي الله عليه و آله، و أما الصوم : فقول الله عزوجل :

(اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا).

قال : فأخبرني عن شي ء يزيد و ينقص، و عن شي ء يزيد و لا ينقص، و عن شي ء ينقص و لا يزيد؟

فقال الباقر عليه السلام : أما الشي ء الذي يزيد و ينقص فهو : القمر، و الشي ء الذي يزيد و لا ينقص فهو : البحر، و الشي ء الذي ينقص و لا يزيد هو : العمر [2] .

و قال أبويوسف الأنصاري : قلت لأبي حنيفة : لقيت محمد بن علي الباقر عليه السلام؟

فقال : نعم، و سألته يوما فقلت له : أراد الله المعاصي؟

فقال عليه السلام : أفيعصي قهرا؟

قال أبوحنيفة : فما رأيت جوابا أفحم منه.

و حق لفقيه مدرسة الرأي و القياس أن يعجب من هذا الجواب المختصر المختزل بكلمتين : (أفيعصي قهرا؟) أي : هل يعقل أن الله سبحانه و تعالي يجبر عباده علي معصيته، فيعصونه بالقهر؟ [3] .

روي الصفار في البصائر عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن بشير، عن كثير بن أبي حمران، قال : قال أبوجعفر عليه السلام : لقد سأل موسي العالم [4] مسألة لم



[ صفحه 99]



يكن عنده جواب و لقد سأل العالم موسي عليه السلام مسألة لم يكن عنده جواب، و لو كنت بينهما لأخبرت كل واحد منهما بجواب مسألته و سألتهما عن مسألة لا يكون عندهما جوابها.

و فيه أيضا عن محمد بن الحسين، عن عثمان بن عيسي، عن ابن مسكان، عن سدير، عن أبي جعفر عليه السلام قال : لما لقي موسي العالم، كلمه و سأله نظر الي خطاف يصفر و يرتفع في السماء و يتسفل في البحر، فقال العالم لموسي عليه السلام : أتدري ما يقول هذا الخطاف؟ قال : و ما يقول؟ قال : يقول : و رب السماء و الأرض ما علمكما من علم ربكما الا ما أخذت بمنقاري من هذا البحر. قال : فقال أبوجعفر عليه السلام : أما اني لو كنت عندهما لسألتهما عن مسألة لا يكون عندهما فيها علم.

و ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن محمد بن مسلم قال : ما شجر في رأيي شي ء قط الا سألت عنه أباجعفر عليه السلام حتي سألته عن ثلاثين ألف حديث، و سألت اباعبدالله الصادق عليه السلام عن ستة عشر ألف حديث.

و في المناقب لابن شهرآشوب أنه حج عليه السلام مرة و قد حف به الحجاج، و ازدحموا عليه و هم يستفتونه عن مناسكهم و يسألونه عن أمور دينهم، و الامام يجيبهم، و بهر الناس من سعة علومه، و أخذ بعضهم يسأل بعضا عنه فانبري اليهم شخص من أصحابه فعرفه لهم قائلا :

«الا ان هذا باقر علم الرسل، و هذا مبين السبل، و هذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء، هذا بقية الله في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمد و خديجة و علي و فاطمة، هذا منار الدين القائمة...» [5] .



[ صفحه 100]




پاورقي

[1] الاحتجاج / الطبرسي 2 : 321.

[2] الاحتجاج / الطبرسي 2 : 328 - 330.

[3] سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام 2 : 263 - 264.

[4] العالم : يعني الخضر.

[5] المناقب / ابن شهرآشوب 4 : 183.