بازگشت

تكامل الخلق و سمو الذات


لقد تميزت صفات الأئمة عليهم السلام و أحوالهم عن سائر الخلائق بهالة من السمو و القدسية، لما حباهم الله تبارك و تعالي و خصهم بالامامة و السيادة علي الناس كافة. و سيرة حياة أهل البيت عليهم السلام تعطينا النبأ اليقين عنهم..

فهم لا يخالفون الحق، و لا يفارقونه طرفة عين.. و هم مع الحق و الحق معهم، و هم يعرفون الحق معرفة كاملة، و يعملون به، و تلك المعرفة السامية جعلتهم الركائز الثابتة الراسخة التي يقوم عليها صرح الاسلام بعد رسول الله صلي الله عليه و آله، و معارفهم الفذة، و أخلاقهم المحمدية القرآنية، جعلتهم قبلة المسلمين، يرجع اليهم علماؤهم و فقهاؤهم في كل شأن من شؤون التشريع الاسلامي، فيفيضون عليهم من الشرح، و التحليل، و التعليل، ما تطيب به نفوسهم، و تهش له قلوبهم.

و امامنا الباقر عليه السلام أحد أولئك الأفذاذ الذين تقصر عند أعتابهم كلمات الثناء و المديح. فعنه يقول ابن شهرآشوب في المناقب : كان أصدق الناس لهجة، و أحسنهم بهجة، و أبذلهم مهجة، فانه يرسم لنا صورة مشرقة بالنضارة و الطهارة عن أهل البيت.

هم شجرة النبوة الرفيعة و الدوحة الهاشمية الباسقة، و عندهم من العلم جواهره، و عليهم تتنزل الملائكة و الروح، و هم الذين استودعهم جدهم رسول الله مخزون أسرار الملك، و الملكوت، و هم الذين فرض الله ولايتهم علي كل



[ صفحه 112]



مسلم و مسلمة، فمن أطاع الله و رسوله فيهم، ظفر بالروح و الريحان، و من نكث فانما ينكث علي نفسه و يصلي في جحيم النيران.

لنستمع الي كلماته بأعيانها [الرائعة] : «نحن شجرة النبوة، و بيت الرحمة، و مفاتيح الحكمة، و معدن العلم، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و موضع سر الله، و نحن وديعة الله في عباده، و نحن حرم الله الأكبر، و نحن عهدالله، فمن و في بذمتنا فقد و في بذمة الله، و من وفي بعهدنا فقد و في بعهدالله، و من خفرنا فقد خفر ذمة الله» [1] .

و مما جاء عن معالي أخلاقه عليه السلام و سموها أنه كان اذا ضحك قال : اللهم لا تمقتني. و جاء في نثر الدرر للآبي : كان اذا رأي مبتلي أخفي الاستعاذة، و كان لا يسمع من داره يا سائل بورك فيك، و لا يا سائل خذ هذا. و كان يقول لأهل بيته : سموهم بأحسن أسمائهم [2] .

و يروي أن رجلا من أهل الشام كان قد سكن المدينة المنورة، و كان يتردد كثيرا علي دار الامام عليه السلام و يقول له : يا محمد، ألا تري أني انما أغشي مجلسك حياء مني لك، و لا أقول : ان في الأرض أحدا أبغض الي منكم أهل البيت، و أعلم أن طاعة الله و طاعة رسوله و طاعة أميرالمؤمنين في بغضكم؟ ولكن أراك رجلا فصيحا، لك أدب و حسن لفظ، و انما الاختلاف اليك لحسن أدبك، و كان أبوجعفر عليه السلام يقول له خيرا، و يقول : لن تخفي علي الله خافية.

فلم يلبث الشامي الا قليلا حتي مرض و اشتد وجعه، فلما ثقل دعا وليه، و قال له : اذا أنت مددت علي الثوب في النعش، فأت محمد بن علي و أعلمه أني أنا الذي أمرتك بذلك.

قال : فلما أن كان في نصف الليل ظنوا أنه قد برد و سجوه، فلما أن أصبح



[ صفحه 113]



الناس خرج وليه الي المسجد، فلما أن صلي محمد بن علي عليه السلام و تورك - و كان اذا صلي عقب في مجلسه - .

قال له : يا أباجعفر، ان فلانا الشامي قد هلك، و هو يسألك أن تصلي عليه.

فقال أبوجعفر : كلا، ان بلاد الشام بلاد صر و بلاد الحجاز بلاد حر و لحمها شديد، فانطلق فلا تعجلن علي صاحبك حتي آتيكم؛ ثم قام من مجلسه، فأخذ وضوءا، ثم عاد فصلي ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ماشاءالله ثم خر ساجدا حتي طلعت الشمس.

ثم نهض فانتهي الي منزل الشامي، فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثم أجلسه فسنده، و دعا له بسويق فسقاه.

فقال لأهله : املأوا جوفه، و بردوا صدره بالطعام البارد؛ ثم انصرف، فلم يلبث الا قليلا حتي عوفي الشامي، فأتي أباجعفر عليه السلام فقال : أخلني؛ فأخلاه، فقال : أشهد أنك حجة الله علي خلقه، و بابه الذي يؤتي منه، فمن أتي من غيرك خاب و خسر و ضل ضلالا بعيدا.

قال له أبوجعفر عليه السلام : و ما بدا لك؟ قال : أشهد أني عهدت بروحي وعاينت بعيني، فلم يتفاجأني الا و مناد أسمعه بأذني و ما أنا بالنائم : ردوا عليه روحه، فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبوجعفر عليه السلام : أما علمت أن الله يحب العبد و يبغض عمله، و يبغض العبد و يحب عمله؟ قال : فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام [3] .

و مما يروي أيضا أن نصرانيا قال للامام عليه السلام : أنت بقر؟

قال : لا أنا باقر.



[ صفحه 114]



قال : أنت ابن الطباخة؟

قال : ذاك حرفتها.

قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية؟

قال : ان كنت صدقت غفرالله لها، و ان كنت كذبت غفرالله لك.

فأسلم النصراني [4] لما راي من خلق الامام الرفيع و عدم انفعاله، و حسن جوابه رغم استفزازه بالأسئلة المقرفة، و جواب الامام عليه السلام عنها برد جميل.

و روي عن زرارة قال :

حضر أبوجعفر عليه السلام جنازة رجل من قريش و أنا معه و كان فيها عطاء فصرخت صارخة، فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن.

قال : فلم تسكت، فرجع عطاء قال : فقلت لأبي جعفر عليه السلام : ان عطاء قد رجع، قال : و لم؟ قلت صرخت هذه الصارخة.

فقال لها : لتستكن أو لنرجعن فلم تسكت فرجع.

فقال : امض بنا فلو أنا اذا رأينا شيئا من الباطل مع الحق تركنا له الحق، لم نقض حق مسلم.

قال : فلما صلي علي الجنازة قال وليها لأبي جعفر : ارجع مأجورا رحمك الله فانك لا تقوي علي المشي فأبي أن يرجع.

قال : فقلت له : قد أذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسألك عنها.

فقال : امض فليس باذنه جئنا و لا باذنه نرجع، انما هو فضل و أجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر علي ذلك [5] .

و جاء في البحار أيضا :



[ صفحه 115]



عن يونس بن يعقوب، عن بعض أصحابنا، قال : كان قوم أتوا أباجعفر عليه السلام فوافقوا صبيا له مريضا فرأوا منه اهتماما و غما و جعل لا يقر.

قال فقالوا : و الله لئن أصابه شي ء انا لنتخوف أن نري منه ما نكره.

قال : فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه فاذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها.

فقالوا له : جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نري منك أن لو وقع أن نري منك ما يغمنا.

فقال لهم : انا لنحب أن نعافي فيمن نحب، فاذا جاء أمرالله سلمنا فيما يحب [6] .

و عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : أعتق أبوجعفر عليه السلام من غلمانه عند موته شرارهم و أمسك خيارهم، فقلت : يا أبت تعتق هؤلاء و تمسك هؤلاء؟ فقال : انهم قد أصابوا مني ضربا فيكون هذا بهذا [7] .


پاورقي

[1] أهل بيت رسول الله في دراسة حديثة / محمد علي أسير : 16 - 17.

[2] في رحاب أئمة أهل البيت / الأمين 4 : 6.

[3] الأمالي / الطوسي : 410 - 411.

[4] بحارالأنوار / المجلسي 46 : 289.

[5] المصدر السابق / 300.

[6] بحارالانوار / المجلسي 301.

[7] بحارالانوار / المجلسي 300.