بازگشت

جود و سخاء.. بذل و عطاء


الحديث عن كرم وجود أئمة أهل البيت عليهم السلام قد يبدو لك للوهلة الأولي حديث أساطير أو من قصص الخيال؛ لكن عندما تتواتر الأخبار عنها، و تجمع كتب السير و التاريخ علي نقل الوقائع نفسها، حينها ستجد نفسك أمام واقع مشرق من أخلاق النبوة التي جاءت لتسمو بالانسان، و تربي فيه حب الخير للآخرين، و البذل و العطاء بجميع أشكاله.

أما الكرم فهو من العناصر الأولية لأئمة أهل البيت عليهم السلام فقد بسطوا



[ صفحه 116]



أيديهم بسخاء نادر الي الفقراء و السائلين، و فيهم يقول الشاعر :



لو كان يوجد عرف مجد قبلهم

لوجدته منهم علي أميال



ان جئتهم أبصرت بين بيوتهم

كرما يقيك مواقف التسآل



نور النبوة و المكارم فيهم

متوقد في الشيب و الأطفال



و يقول فيهم الكميت :



و الغيوث الليوث ان أمحل الناس

فمأوي حواضن الأيتام



و يقول فيهم أيضا :



اذا أنشأت منهم بأرض سحابة

فلا النبت محظور و لا البرق خلب



و ما أبدع ما قيل مما ينطبق عليهم :



كرموا و جاد قبيلهم من قبلهم

و بنوهم من بعدهم كرماء



فالناس أرض في السماحة و الندي

و هم اذا عد الكرام سماء [1] .



و أبدع منه ما قاله الفرزدق فيهم و في حق الامام السجاد عليه السلام، و هو يكافح عن حق أهل البيت عليهم السلام المهتضم :



اذا رأته قريش قال قائلها

الي مكارم هذا ينتهي الكرم



و من البديهي أن أهل البيت عليهم السلام هم نسخة مكررة في الفكر و الأخلاق و العمل، بيد أن المصاديق و المضامين تختلف لاختلاف الحوادث و الأوضاع و التحديات. و امامنا الباقر عليه السلام هو فرع الدوحة المحمدية، و أحد العترة الطاهرة، و هو ابن من اليه ينتهي الكرم، فلا غرو أن تكون سجاياه مجبولة علي حب الخير وصلة الناس و ادخال السرور عليهم، فكان - مع ما له من الفضل في العلم و السؤدد و الرئاسة و الامامة - ظاهر الجود في الخاصة و العامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفا بالفضل و الاحسان مع كثرة عياله و توسط حاله [2] .



[ صفحه 117]



فعن الامام الصادق عليه السلام قال :

دخلت علي أبي يوما و هو يتصدق علي فقراء المدينة بثمانية آلاف دينار، و أعتق أهل بيت بلغوا أحدعشر مملوكا. و كان عنده ستون مملوكا فأعتق ثلثهم عند موته.

و عن الحسن بن كثير قال :

شكوت الي أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة و جفاء الاخوان، فقال : بئس الأخ أخ يرعاك غنيا و يقطعك فقيرا، ثم أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبعمائة درهم فقال : استنفق هذا فاذا نفدت فاعلمني.

و عن عمرو بن دينار و عبدالله بن عبيد، قالا :

ما لقينا أباجعفر محمد بن علي عليه السلام الا و حمل الينا النفقة و الصلة و الكسوة و قال : هذه معدة لكم قبل أن تلقوني.

و عن سليمان بن قرم، قال :

كان أبوجعفر محمد بن علي عليه السلام يجيزنا بالخمسمائة الي الستمائة الي الألف درهم، و كان لا يمل من صلة اخوانه و قاصديه و مؤمليه و راجيه. و كان أحب شي ء للامام في هذه الدنيا صلته لاخوانه.

قالت سلمي مولاته :

كان يدخل عليه اخوانه فلا يخرجون من عنده حتي يطعمهم الطعام الطيب و يكسوهم الثياب الحسنة، و يهب لهم الدراهم، فأقول له في ذلك ليقل منه، فيقول : يا سلمي ما حسنة الدنيا الا صلة الاخوان و المعارف، و كان يجيز بالخمسمائة و الستمائة الي الألف [3] .

و كان عليه السلام قد عهد لابنه الامام الصادق عليه السلام أن ينفق من بعده علي أصحابه و تلاميذه ليتفرغوا الي نشر العلم و اذاعته بين الناس.



[ صفحه 118]



و كان لا يمل من مجالسته اخوانه.

و قال عليه السلام : اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك.

و من معالي أخلاقه عليه السلام أنه كان يبجل الفقراء، و يرفع من شأنهم لئلا يري عليهم ذل الحاجة و المسألة، فكان لا يسمع من داره يا سائل بورك فيك، و لا يا سائل خذ هذا، و كان يقول : سموهم بأحسن أسمائهم؛ لذا عهد الي أهله و عياله أن لايقولوا له : يا عبدالله بورك فيك، و يا عبدالله خذ هذا.

هذه بعض مظاهر تعامله عليه السلام مع قطاعات الأمة الواسعة، علي أن القيمة الموضوعية لممارسته تلك قد لا تتجسد بشكل جلي أمام القاري ء الكريم، الا اذا أعدنا الي الأذهان أن الامام عليه السلام لم يكن في وضع اقتصادي يحسد عليه، فقد كان كما وصفه الامام الصادق عليه السلام : كان أبي أقل أهل بيته مالا و أعظمهم مؤونة. و مع ذلك كان يتصدق كل يوم جمعة بدينار و يقول : الصدقة يوم الجمعة تضاعف، لفضل يوم الجمعة علي غيره من الأيام [4] .

فهو عليه السلام انما يمارس تلك المسؤوليات، و يتحمل تلك التبعات لا من مركز مالي مرتفع، و انما من مركز متواضع؛ ولكنه مع ذلك لا ينكص عن تحمل الأعباء الاجتماعية أبدا انما يمارس دوره من أجل التخفيف عن كاهل الأمة التي يرهقها الظلم الاجتماعي الذي تصبه السياسة التحريفية يوم ذاك، لا سيما علي أتباع أهل البيت عليهم السلام.

و ما أعظم الشعار الذي كان يرفعه عليه السلام بهذا الصدد، نقلا عن جده رسول الله صلي الله عليه و آله : أشد الأعمال ثلاثة : مواساة الاخوان في المال، و انصاف الناس من نفسك، و ذكر الله علي كل حال.

و لقد كان عليه السلام - و هو المثل الأعلي في ذلك - حريصا علي تعليم أتباعه من



[ صفحه 119]



المؤمنين أرقي نماذج التعامل مع الناس، فيقول بهذا الصدد :

ثلاثة من مكارم الدنيا و الآخرة : أن تعفو عمن ظلمك؛ و تصل من قطعك؛ و تحلم اذا جهل عليك.

و قال أيضا : ما من عبد يمتنع من معونة أخيه المسلم و السعي له في حاجته، قضيت أولم تقض الا ابتلي بالسعي في حاجة من يؤثم عليه و لا يؤجر. و ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله الا ابتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله.

و أخيرا و ليس آخرا : ان رجلا قال يوما عنده : اللهم اغننا عن جميع خلقك، فقال أبوجعفر عليه السلام : لا تقل هكذا ولكن قل : اللهم اغننا عن شرار خلقك، فان المؤمن لا يستغني عن أخيه.

هذا غيض من فيض، و هي بعض البوادر التي أثرت عن كرمه و سخائه، حيث تكشف عن ان البر و الاحسان كانا من سجاياه و من ملكاته.


پاورقي

[1] حياة الامام محمد الباقر / القرشي 1 : 125.

[2] الارشاد / المفيد 2 : 166.

[3] الارشاد / المفيد 2 : 166 - 167.

[4] الأنوار البهية / المحدث القمي : 122.