بازگشت

شواهد من سيرته


سبق ان تناولنا في الفصلين السابقين شيئا من السيرة المباركة للامام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، مع العلم بأن ما وصل الينا عبر التاريخ عن سيرة الأئمة الطاهرين - صلوات الله عليهم أجمعين - بعد واقعة الطف الأليمة، لا يمثل الا النزر اليسير مما هو مخزون في صدورهم، و الطافح علي سيرتهم العملية و الذاتية، و ذلك نتيجة التعتيم الاعلامي و ضرب الحصار الذي طوقه الاعداء، و فرضه حكام جور علي أئمة أهل البيت الهداة عليهم السلام و علي الرواة من شيعتهم و مطاردتهم دون هوادة، و التنكيل بهم و كم أفواههم، دون التحدث بفضائلهم و اظهار مناقبهم.

فقد حبس الكثير الكثير من العلوم في القلوب الأئمة الطاهرين عليهم السلام و في صدور الطليعة من أصحابهم الميامين الذين حفظوا أسرار هذا الدين، و حافظوا علي تراثه الضخم و ليس ادل علي ذلك من حديث جابر الجعفي.

فقد روي جابر الجعفي - قال : حدثنا أبوجعفر الباقر عليه السلام سبعين ألف حديث [1] ، و لم احدث بها أحدا قط، و لا احدث بها أبدا [2] .



[ صفحه 172]



قال جابر : قلت لأبي جعفر عليه السلام : جعلت فداك انك قد حملتني وقرا عظيما بما حدثتني به من سركم الذي لا احدث به أحدا، فربما جاش في صدري حتي يأخذني منه شبه الجنون، قال : يا جابر، فاذا كان ذلك فاخرج الي الجبان [3] فاحفر حفيرة ورد رأسك فيها، ثم قل : حدثني محمد بن علي بكذا و كذا. ثم طمه فأن الأرض تستر عليك، قال جابر : ففعلت ذلك فخف عني ما كنت اجده.

أقول : علي رغم كل ذلك التعتيم الاعلامي، فقد هزت واقعة الطف في كربلاء عروش الحكام الظالمين و زلزلتها تحت أقدامهم، و أقضت مضاجعهم، و ما ثورة المدينة المنورة، و ثورة التوابين في الكوفة، و ثورة الحسنيين محمد ذو النفس الزكية و أخيه، في المدينة و البصرة و الكوفة، و ثورة الشهيد زيد بن علي في الكوفة، و ثورة الحسين بن علي «صاحب فخ» بين مكة و المدينة و غيرها من الثورات التي اندلعت هنا و هناك علي الحكام الجائرين الا نماذج حية تحكي عن واقع المجتمع و تذمر الامة الاسلامية من ظلم و جور الحكام الأمويين و العباسيين.

و علي رغم كل تلكم الممارسات الظالمة و الاجراءات التعسفية، المعروفة بالارهاب و التعتيم، و كم الأفواه، فقد شاع ما بين الخافقين مما وصل الينا من تراث و علوم أئمتنا الطاهرين الشي ء الكثير، لا سيما في فترة انقراض الحكم الأموي و تأسيس الحكم العباسي.

فقد وجد الامامان الصادقان أبوجعفر محمد بن علي الباقر، و أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام الفرصة المناسبة لتأسيس مدرستيهم، الفقهية و الحديثية، و بث العلوم الاسلامية، من تفسير، و اصول، و منطق و غيرها من العلوم الانسانية، و كان حصيلة ذلك ان ملأ الخافقين، و سد فجوات كبيرة، احدثتها بعد ذلك تطورات الحياة الفكرية، و الاجتماعية و السياسية، و لولاهم



[ صفحه 173]



لكانت الأمة تعاني الجهل و الحرمان.

و في هذا الفصل سنتناول لمعا من فضائل و مناقب و حكم و احتجاجات امامنا الباقر عليه السلام و التجول في رحابه الواسع ما استطعنا الي ذلك سبيلا.

كما ان سيرته الشريفة، و مواقفه الفذة، و احتجاجاته الدامغة مع اصحاب الفكر و الآراء الشاذة و المخالفة لخط أهل البيت عليهم السلام تركت بصماتها ثابتة، لا تزول مدي الدهر.

و قد آثرنا أن يحتوي هذا الفصل بعض ما نقله ارباب السير، و أصحاب الصحاح، و المؤرخون في مسانيدهم، و معاجمهم، من فضائل الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام و مناقبه لتعيش الامة من فيض اشعاع نوره، و طريقه المستقيم.

و أملنا وطيد أن تكون سيرة امامنا الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام نبراسا يستضاء به في دياجير الانحراف و الظلم، و تكون سفينة نجاة لنشل الغارقين في بحارها المتلاطمة بامواج الرذيلة و الضلال و الانحراف في مهالك الهوي و الشيطان.



[ صفحه 174]




پاورقي

[1] ذكرت كتب التاريخ و السير هذه الرواية و نحن نقلناها كما هي، غير ان المراد بالسبعين الف ربما يكون من صيغ المبالغة.

[2] رجال الكشي : باب 343 / 194، معجم الرجال الحديث الخوئي 4 / 341.

[3] الجبان : المقبرة.