بازگشت

الامام و حكام زمانه


ذكرنا في مطلع الكتاب أن ولادة الامام كانت سنة 57 من الهجرة الشريفة، و عليه فان ولادته عليه السلام كانت أيام حكم معاوية بن أبي سفيان (ت / 60 ه). ثم آلت السلطة بعد هلاك معاوية لعنة الله عليه و علي سلفه الي ابنه الماجن يزيد (ت / 64 ه). و نستطيع القول ان بدايات تفتح الامام الباقر عليه السلام علي الدنيا كانت من ذلك الوقت و بالتحديد من واقعة كربلاء الأليمة التي بقيت بعض فصولها عالقة في ذهن الامام عليه السلام. كما يمكننا القول بان معاناته عليه السلام مع حكام الجور و الضلال بدأت أيضا من ذلك التاريخ حيث أخذ يتحسس - ببراءة الطفولة - فداحة الظلم و الحيف الذي جري علي آل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله، و بدأت أحاسيسه و مشاعره و معاناته تزداد و تكبر علي مر السنين و الاعوام.

و بتنازل معاوية بن يزيد بن معاوية (ت / 64 ه) عن الخلافة بعد ثلاثة أشهر و تحول السلطة الي البيت المرواني تسلم مروان بن الحكم (ت / 65 ه) زمام الأمور، الذي وصف امرته أميرالمؤمنين عليه السلام بعد انتصاره يوم الجمل بأنها «كلعقة الكلب أنفه» كناية عن استهجانه و قصير مدته، و من بعده حكم ابنه عبدالملك بن مروان الطاغية الذي دام عشرين سنة من 65 - 86 ه.

فكانت صفحة جديدة من حياة الامام أبي جعفر عليه السلام في علاقته بحكام زمانه حيث كان للامام من العمر نحو تسع سنين، و فيها أول نبوغه، و بدايات دخوله معترك الحياة، و لم يكن وقتها قد ذاع له صيت.

و يدعي بعض الرواة ان عبدالملك بن مروان كان يحاول أن يكون أقل



[ صفحه 226]



عنفا من أسلافه مع العلويين و أنه كتب الي عامله في الحجاز كتابا جاء فيه : جنبني دماء آل أبي طالب فاني رأيت آل حرب لما تهجموا بها لم ينصروا. فلو صح ما قيل عنه، فان السياسة الزمنية فرضت عليه ذلك؛ لأنه أدرك مدي الاستياء الذي خلفته سياسة معاوية و ولده يزيد معهم و ما ترتب عليها من الانتفاضات في مختلف أنحاء الدولة لا سيما و قد ظهر منافسه الجديد عبدالله بن الزبير في الحجاز و اتسعت أطماعه للعراق و غيرها من المنافق ولكن هذه الظاهرة من عبدالملك لم ترافقه طيلة حكمه، فما أن تم له القضاء علي خصمه ابن الزبير و استتب له الأمر حتي كتب الي عماله و أمرهم بالشدة و القسوة علي شيعة أهل البيت و أمر الحجاج بأن يذهب الي العراق و قال له : احتل لقتلهم فقد بلغني عنهم ما اكره، و اذا قدمت الكوفة فطأها و طأة يتضاءل لها أهل البصرة.

و راح عبدالملك يراقب تحركات الأئمة و تصرفاتهم و أمر و اليه علي الحجاز ان يرسل اليه زين العابدين و كان حاقدا عليه، و مع ما كان منه مع الأئمة و شيعتهم، كان يلجأ اليهم في بعض المهمات التي تهمه و لا يجد المخرج منها لعلمه بمكانتهم و أنهم لا يبخلون في النصحية علي أحد و لو كان من ألد خصومهم و أعدائهم و بخاصة اذا كانت لمصلحة الاسلام.

فقد جاء في حياة الحيوان للشيخ كمال الدين الدميري و في شذرات العقود للمقريزي و في المحاسن و المساوي ء لابراهيم بن محمد البيهقي، و غيرهم عن الكسائي أنه قال : دخلت علي الرشيد ذات يوم و هو في ايوانه و بين يديه مال كثير قد شق عنه البدر شقا و أمر بتفريقه و بيده درهم تلوح كتابته و هو يتأمله. و كان كثيرا ما يحدثني ثم قال لي : هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب و الفضة؟ قلت : يا سيدي هو عبدالملك بن مروان، قال : فما كان السبب في ذلك؟ قلت : لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة، فقال : سأخبرك بذلك، لقد كانت القراطيس للروم و كان أكثر من بمصر نصرانيا علي دين ملك



[ صفحه 227]



الروم و كانت تطرز بالرومية و طرازها (أب و ابن و روح القدس) فلم يزل كذلك في صدر الاسلام كله يمضي علي ما كان عليه الي أن ملك عبدالملك بن مروان فتنبه له و كان فطنا، فبينما هو ذات يوم اذ مر به قرطاس فنظر الي طرازه فأمر أن يترجم الي العربية ففعل ذلك فأنكره و قال : ما أغلظ هذا في أمر الدين و الاسلام أن يكون طراز القراطيس و هي تحمل في الأواني و الثياب و هما يعملان في مصر و غير ذلك مما يطرز من ستور و غيرها من عمل هذا البلد علي سعته و كثرة ماله و قد طرزت بسطر مثبت عليها، فكتب الي أخيه عبدالعزيز بن مروان و كان عامله علي مصر بابطال ذلك الطراز و أن يأمر صناع القراطيس أن يطرزوها بسورة من القرآن و هي : (شهد الله أنه لا اله الا هو)، و هذا طراز القراطيس خاصة الي هذا الوقت لم ينقص و لم يزد و لم يتغير، و كتب الي عماله في الآفاق بابطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم و معاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شي ء منها بالضرب و الحبس، فلما ثبتت القراطيس بالطرز الجديد و حمل الي بلاد الروم و انتشر خبره و وصل الي ملكهم و ترجم له أنكره و استشاط غيظا، فكتب الي عبدالملك أن عمل القراطيس بمصر و سائر ما يطرز هناك للروم و لم يزل يطرز بطراز الروم الي أن أبطلته أنت، فان كان من قبلك من الخلفاء أصاب فقد أخطأت أنت، و ان كنت قد أصبت فقد اخطأوا فاختر من هاتين أيهما شئت و أحببت، و بعث اليه مع الكتاب هدية ثمينة و طلب اليه رد الطراز الي ما كان عليه فرد عليه عبدالملك كتابه و هديته فأرسل اليه ملك الروم ثانيا و ثالثا و في كل مرة يكتب اليه و يضاعف الهدية و عبدالملك يرفضها و أخيرا تهدده ملك الروم بأن ينقش علي الدراهم و الدنانير شتم النبي صلي الله عليه و آله و دار حوار بين الطرفين لم ينته الي حل للأزمة و بقي ملك الروم علي اصراره و كانت الدراهم و الدنانير التي يتعامل بها المسلمون في جميع بلادهم من صنع الروم، فضاق بعبد الملك أمره و استشار حاشيته و أصحابه و ذوي الرأي من المسلمين



[ صفحه 228]



فلم ينتهوا الي نتيجة تحسم النزاع و تحفظ للمسلمين كرامتهم، و لما ضاق بعبد الملك أمره استشار روح بن زنباع (مستشاره)، فقال له : انك لتعرف المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال له : ويحك من هو؟ فقال : عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله، فقال : صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه، فكتب الي عامله في المدينة أن أشخص الي محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام مكرما و متعه بمائة ألف درهم لجهازه و بثلاثمائة ألف درهم لنفقته، و لما عرض الوالي علي الامام الباقر كتاب عبدالملك شد الرحال و اتجه الي الشام، و دخل علي عبدالملك فاستقبله و رحب بقدومه و قص عليه ما جري له مع ملك الروم و طلب منه المخرج من تلك الأزمة التي استعصي عليه حلها، فقال له الباقر عليه السلام : لا يعظم هذا عليك، الرأي أن تدعو في هذه الساعة من يضرب لك الدراهم و الدنانير و تنقش علي أحد وجهيها سورة التوحيد و علي الوجه الثاني محمد رسول الله، و تجعل في مدارها ذكر البلد الذي يضرب فيه و السنة التي يضرب فيها، ثم وضع له الامام عليه السلام خطة يستحيل معها التلاعب في وزن الدراهم و الدنانير أو تزويرها كما بين له الكيفية التي يتم صنع النقود الاسلامية فيها بصنع صنجات من قوارير لا تستحيل الي زيادة و لا نقصان علي حد تعبير الراوي، ثم قال له الامام عليه السلام : فاذا فعلت ذلك فأمر بوجوب التعامل بها و تهدد المخالفين بأشد العقوبات و بذلك تقطع الطريق علي ملك الروم و تستغني عن نقوده، فاستحسن ذلك عبدالملك و باشر فعلا بما أشار به الامام الباقر عليه السلام، و خلال أشهر قلائل انتهي كل شي ء و أصدر أوامره الي جميع الأقطار الاسلامية بالتعامل بالدنانير و الدراهم الاسلامية و ابطال ما كان متعارفا من استعمال الطروز الرومية و قيل لملك الروم : افعل ما كنت تهدد به ملك العرب، فقال : انما اردت ان اغيظه بما كتبت اليه لأني كنت قادرا عليه، و المال و غيره برسوم للروم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الاسلام. هذا مجمل ما رواه الدميري في حياة



[ صفحه 229]



الحيوان عن المحاسن و المساوي ء للبيهقي و رواه غيره بهذا المضمون عن شذرات العقود للمقريزي.

و في رواية ثانية تتلخص فيما يلي : علي أثر صراع عنيف و اشتباكات بين الدولتين الرومانية و الاسلامية علي حدودهما هدد ملك الروم عبدالملك بن مروان بقطع النقود عن البلاد الاسلامية و كان المسلمون يتعاملون بها اذا لم يتخل المسلمون عن الحدود المتنازع عليها فاضطرب عبدالملك لأن عملا من هذا النوع يؤدي الي شلل الاقتصاد الاسلامي، فجمع أعيان المسلمين و استشارهم في المخرج من هذه الأزمة، فلم ينتهوا الي نتيجة حاسمة، فأشاروا عليه بالرجوع الي الامام الباقر عليه السلام، فأرسل اليه كتابا يدعوه فيه الي الحضور، فلبي الامام الدعوة و وفد علي الشام، فعرض عليه عبدالملك ما جري له مع الروم و ما انتهي اليه الحال فقال له الامام عليه السلام : لا يهولنك ما تري، أرسل الي ملك الروم و استمهله مدة من الزمن لتري رأيك فيما عرضه عليك و خلال تلك المدة أرسل الي عمالك في جميع المقاطعات و أمرهم بأن يجمعوا الذهب و الفضة حتي الأقراط من آذان النساء حتي اذا توفرت لك الكمية الكافية باشر بصك الدرهم و الدينار، و حدد له الامام وزنهما و كيفيتهما و أمره أن يكتب علي احدي الجهتين محمد رسول الله و ترك له أن يكتب علي الجهة الثانية ما يريد، (و أضاف الامام الي ذلك ما حاصله) : و عند الفراغ من ذلك ضع الدرهم و الدينار في أيدي المسلمين و امنع من التعامل بغيرهما حتي لا يبقي لملك الروم سلطان عليك، فلم يجد عبدالملك بديلا لهذا الرأي و باشر بتنفيذه في الحال.

و خلال أشهر معدودات كان النقد الجديد في أيدي المسلمين يتعاملون به بدلا من النقد الروماني، و أرسل عبدالملك الي ملك الروم يرفض طلبه بتعديل الحدود بين الدولتين، و كانت الدولة الرومانية تحسب أن الضغط الاقتصادي بالنحو الذي هددت به المسلمين ورقة رابحة بيدها ولكنها فشلت



[ صفحه 230]



في ذلك بعد أن استغني المسلمون بنقدهم الجديد و ثروتهم الجديدة، فعادت تفكر في أسلوب جديد للضغط علي المسلمين فلم تر بديلا للضغط العسكري، فأرسلت فرقا من المردة - و كانوا قد التحقوا بالدولة الرومانية بعد الفتح الاسلامي - أرسلتهم للتخريب في بلاد الشام فسلكوا السواحل يقتلون و يفسدون حتي انتهوا الي سواحل لبنان، فأرسل عبدالملك جيشا لمطاردتهم فقتل منهم جماعة و أسر آخرين، و التجأت فلولهم الي الكهوف و الغابات في جبال لبنان و لم تكن مسكونة يوم ذاك، فكانوا يظهرون من أوكارهم بين الحين و الآخر للقنص و السلب و التخريب بتوجيه من الرومان، فاذا داهمتهم الحاميات الاسلاميات عادوا الي الكهوف و الغابات. و استمروا علي ذلك شطرا من الزمن الي أن ألفوا تلك المناطق و استوطنوا بها و خضعوا لحكم الدولة الاسلامية بعد أن وجدوا أن لا مفر لهم من ذلك، و انتعشوا في عهد الصليبيين الذين حكموا لبنان زمنا طويلا، و عندما خرجوا منه تركوا من أحفادهم عشرات الألوف، و ارتفع عددهم علي مرور الزمن حتي أصبح نحوا من ربع سكان لبنان في عصرنا الحالي، و لا يزالون يتباهون بأجدادهم المردة الذين دخلوا البلاد يوم ذاك بالنحو الذي وصفته بعض الروايات، و لا يزال الدعم الصليبي الاستعماري سندهم.

هذا مجمل ما جاء في بعض المرويات حول النقد الاسلامي، و جاء في بعض المرويات أن أول من أمر بضرب السكة الاسلامية هو الخليفة علي بن أبي طالب عليه السلام في البصرة سنة أربعين من الهجرة، و كان رأس البغل قد ضرب الدراهم لعمر بن الخطاب بسكة الفرس، و من ذلك الدرهم المعروف بالبغلي. و من الجائز أن يكون الأمر كذلك ولكنه بقي التعامل بالنقد الروماني الي جانب تلك النقود، و لما ضرب السكة عبدالملك باشارة الامام الباقر عليه السلام منع من التعامل بغيرها. و الشي ء الذي يدعو الي التساؤل و لابد من الوقوف عنده هو ان



[ صفحه 231]



الروايات تنص علي أن تاريخ النقد الاسلامي يعود لسنة ست و سبعين للهجرة يوم قام عبدالملك بهذه المهمة باشارة من الامام الباقر، و الباقر يوم ذاك كان في التاسعة عشرة من عمره، و كان في بدايات ذيعان صيته و انتشار أخبار معارفه و علومه. و كان والده الامام زين العابدين لا يزال حيا و عاش الي سنة خمس و تسعين هجرية و بعدها انتقلت الامامة الي محمد الباقر عليه السلام و ذلك بعد هلاك عبدالملك بخمسة عشر عاما أو أقل من ذلك و من الجائز أن يكون المشير علي عبدالملك قد أرشده الي الامام علي بن الحسين عليه السلام لأنه الامام يوم ذاك و المعروف في الأوساط الاسلامية، كما يجوز و ليس ببعيد أن يكون هو الامام الباقر عليه السلام كما نصت علي ذلك الرواية؛ لأنه كان معروفا في الأوساط الاسلامية، و مؤهلات الأئمة عليهم السلام لا تقاس بعدد السنين، كما يبدو ذلك للمتتبع في تاريخهم المجيد و آثارهم الخالدة التي اختص الله بها نبيه صلي الله عليه و آله و أورثهم اياها [1] .

أقول : جاء في دائرة المعارف البريطانية أن أول من أمر بضرب السكة الاسلامية هو الخليفة علي بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660 ميلادية ثم أكمل الأمر عبدالملك بن مروان سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 ميلادية. و يمكن الجمع بأن عليا أمر بضرب السكة في البصرة مع بقاء التعامل بسكة أخري و كذلك ما ضربه رأس البغل من الدراهم لعمر مع أنه كان بسكة كسروية أما عبدالملك فانه ضرب السكة باشارة الامام الباقر عليه السلام علي الصفة المتقدمة و منع من التعامل بغيرها.

و يرحل الامام السجاد عليه السلام الي جوار ربه الأعلي سبحانه عام 95 ه فينهض الامام محمد الباقر عليه السلام بأعباء امامة المسلمين، و قد امتدت امامته تسع عشرة سنة، قضي منها زهاء السنتين في حكم الوليد بن عبدالملك الحاكم الأموي السادس (ت / 96 ه) و سنتين في عهد سليمان بن عبدالملك



[ صفحه 232]



(ت / 99 ه) و هي مدة حكمه فحسب.

و يبدو أن الظروف في عهده لم تشهد تطورا نحو الأحسن في العلاقة بين أهل البيت عليهم السلام و البيت الأموي الحاكم، فان حادثة اغتيال الامام السجاد عليه السلام بالسم، و من قبلها مأساة الطف ما زالت حية في النفوس.

و يبدو أن سليمان بن عبدالملك الذي كان يخشي علي ملكه و سلطانه من أهل بيت النبوة عليهم السلام، لا سيما و قد ارتكب جريمة اغتيال الامام السجاد عليه السلام من قبل، قد انشغل طوال فترة حكمه القصيرة في تصفية كل القيادات التي اعتمدها أخوه الوليد من قبل، فقد صب حقده علي أسرة الحجاج بسبب حقده علي الحجاج ذاته لعوامل شخصية لسنا بصدد ذكرها الآن، كما عزل ولاة الوليد البارزين و عاقب بعضهم بالموت كمحمد بن القاسم، و مع انشغال سليمان بالاجهاز علي ولاة الوليد، كان كذلك مشغولا بالطعام و النساء و البذخ بشكل جعل المؤرخين يقطعون بكونه أفسق ممن سبقه من حكام بني أمية.

و بتولي عمر بن عبدالعزيز ثامن حكام بني أمية (ت / 101 ه) قيادة الحكم الأموي سنة 99 ه حدث تحول كبير لصالح الاسلام و الدعوة، فبالرغم من قصر أيام الرجل المذكور في الحكم، الا ان مواقفه من أهل البيت عليهم السلام كان فيها الكثير من الانصاف، فقد عمل علي رفع الحيف عنهم، و أطاح ببعض أنواع الظلم الذي لحق بهم، فرفع السب عن الامام علي عليه السلام من علي المنابر، و هي سنة سنها معاوية، و عممها علي الأمصار، فصار سنة يستن بها كل حكام بني أمية في خطبة الجمعة، حتي عهد عمر بن عبدالعزيز، الذي منعه، و استبدل به في خطبة الجمعة قول الله تعالي : (ان الله يأمر بالعدل و الاحسان و ايتاء ذي القربي و ينهي عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون) [2] .

و كما رفع السب عن أميرالمؤمنين أعاد فدكا الي الامام الباقر عليه السلام معتبرا



[ صفحه 233]



أمر مصادرتها من لدن الحكام السابقين غير شرعي، فعن هشام بن معاذ، قال : كنت جليسا لعمر بن عبدالعزيز حيث دخل المدينة، فأمر مناديه، فنادي : من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب، فأتي محمد بن علي فدخل اليه مولاه مزاحم، فقال : ان محمد بن علي بالباب. فقال أدخله يا مزاحم. قال فدخل و عمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمد بن علي : ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام بن معاذ : أبكاه كذا و كذا يابن رسول الله؟ فقال محمد بن علي عليهماالسلام : يا عمر انما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرجوا بما يضربهم، و كم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتي أتاهم الموت، فاستوعبوا، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة و لا مما كرهوا جنة، فقسم ما جمعوا لمن لا يحمدهم، و صاروا الي من لا يعذرهم، فنحن و الله محقوقون أن ننظر الي تلك الأعمال التي كنا نغبطهم عليها فنوافقهم فيها و ننظر الي تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها فنكف عنها، فاتق الله، و اجعل في قلبك اثنتين : تنظر الذي تحب أن يكون معك اذا قدمت علي ربك فقدمه بين يديك، و تنظر الذي تكرهه أن يكون معك اذا قدمت علي ربك فابتغ فيه البدل، و لا تذهبن الي سلعة قد بارت علي من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، و اتق الله عزوجل يا عمر، و افتح الأبواب و سهل الحجاب، و انصر المظلوم ورد المظالم. ثم قال : ثلاث من كن فيه استكمل الايمان بالله، فجثا عمر علي ركبتيه ثم قال : ايه يا أهل بيت النبوة. فقال عليه السلام : نعم يا عمر من اذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، و اذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، و من اذا قدر لم يتناول ما ليس له. فدعا عمر بدواة و قرطاس، و كتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما رد عمر بن عبدالعزيز ظلامة محمد بن علي (فدك).

و بالنظر الي أن البيت الأموي لم يألف مهادنة أهل بيت الرسالة عليهم السلام قط، فان ابن عبدالعزيز كان يواجه الضغط من بني أمية بسبب سياسته الانفتاحية



[ صفحه 234]



عليهم، فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام عن أبيه قوله :

لما ولي عمر بن عبدالعزيز أعطانا عطايا عظيمة، فدخل عليه أخوه فقال له : ان بني أمية لا ترضي منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم، فقال عمر : أفضلهم لأني سمعت، حتي لا أبالي ألا أسمع، ان رسول الله صلي الله عليه و آله كان يقول : انما فاطمة شجنة مني يسرني ما اسرها و يسوؤني ما أساءها، فأنا أبتغي سرور رسول الله صلي الله عليه و آله و أتقي مساءته.

علي أن زعامة ابن عبدالعزيز لم تدم أكثر من سنتين و خمسة أشهر، فتولي الحكم بعده يزيد بن عبدالملك (ت / 105 ه)، المشهور تاريخيا بلهوه و خلاعته و غزله الماجن. و اذا كان انشغال الأخير بأعماله الصبيانية و مجونه لم يعطه فرصة التصدي لمسيرة الاسلام التاريخية التي يقودها الامام الباقر عليه السلام، فان تولي هشام بن عبدالملك عاشر حكام بني أمية (ت / 125 ه) للقيادة السياسية المنحرفة، قد خلق انعطافا تاريخيا لغير صالح الحركة الاسلامية، فالحاكم المذكور كان خشن الطبع، شديد البخل، فظا، ناقما علي المسلمين من غير العرب، فضاعف من حجم الضرائب المالية عليهم، و أعاد أيام يزيد و الحجاج الدموية، فتصدي له أهل البيت عليهم السلام من خلال انتفاضة الشهيد زيد بن علي عليه السلام، التي كانت صدي الثورة الحسين عليه السلام و امتدادا لها، فاستشهد هو و أصحابه، و أمر الطاغية هشام بصلب جثته و من ثم حرقها و ذر رمادها في نهر الفرات.

علي أن الطغيان الأموي لم يكتف بقتل زيد و أصحابه البررة، و انما اتجه نحو ضرب المواقع الأساسية للحركة الاسلامية التي يمثلها الامام الباقر عليه السلام و تلامذته.

فقد أصدر هشام الحاكم الأموي قرارا يقضي بقتل جابر بن يزيد الجعفي، أبرز تلامذة الامام الباقر عليه السلام، غير ان الامام قد أفشل مخطط القوم بالوسائل



[ صفحه 235]



المتاحة لمنصب الامامة الشرعية عادة، اذ أمر تلميذه بالتظاهر بالجنون، كطريق وحيد لضمان نجاته من القتل.

و بمقدورنا أن ندرك حجم الظلم الذي كان يصب علي أتباع الرسالة الالهية في ذلك العصر الكالح حتي يضطر الرجل منهم، بالرغم من فضله و علمه، الي التظاهر بالجنون، و ما ينجم عنه من اهانة الصبيان، أو لعبه معهم، كل ذلك درءا للقتل عن نفسه و خلاصا من الموت الذي يدبر له في الظلام.

و هكذا تظاهر الجعفي بالجنون، و امتطي قصبة، و علق كعبا في رقبة، فاجتمع عليه الصبيان في أزقة الكوفة و الجميع يقولون : جن جابر.

و لم تمض غير أيام قلائل حتي أتت أوامر هشام الي و اليه علي الكوفة بوجوب قتل جابر الجعفي و انفاذ رأسه الي دمشق، غير أن الوالي حين سأل عنه من أجل أن ينفذ فيه الجريمة، قيل له : أصلحك الله كان رجلا له فضل و علم و جن، و هو دائر في الرحبة مع الصبيان علي القصب يلعب معهم.

فعدل الحاكم المحلي عن قتله بعد اقتناعه بجنونه.

ان هشام بن عبدالملك كان واثقا من أن مصدر الوعي الاسلامي الصحيح انما هو الامام الباقر عليه السلام و أن وجوده حرا طليقا يمنحه مزيدا من الفرص لرفد الحركة الاصلاحية في الامة و تكريس مدها المتعاظم، و من أجل ذلك رأت السياسة المنحرفة ممثلة بحفيد مروان أن يحال بين الامام عليه السلام و بين استمراريته بالعمل الرسالي لصالح الاسلام و الامة، و قد اتجه المكر الأموي نحو اعتقال الامام عليه السلام و ابعاده عن عاصمة جده المصطفي صلي الله عليه و آله التي اجتمعت هي و الحجاز عموما علي اجلاله و التمسك به.

و هكذا حمل الامام عليه السلام و ابنه جعفر الصادق عليه السلام الي دمشق بأمر السلطة الأموية لا يقاف تأثيره في الامة المسلمة و حجبه عن أداء دوره الرسالي العظيم، و أودع في أحد سجون الحكم هناك.



[ صفحه 236]



بيد أن تأثيره الفكري فيمن التقي بهم حمل السلطة الأموية علي اطلاق سراحه كما تفيد رواية أبي بكر الحضرمي، حيث يقول :

لما حمل أبوجعفر الي الشام الي هشام بن عبدالملك، و صار ببابه، قال هشام لأصحابه : اذا سكت من توبيخ محمد بن علي فلتوبخوه، ثم أمر أن يؤذن له، فلما دخل عليه أبوجعفر قال : السلام عليكم، و أشار بيده، فعمهم جميعا بالسلام، ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقا بتركه السلام بالخلافة، و جلوسه بغير اذن. فقال : يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، و دعا الي نفسه و زعم أنه الامام سفها و قلة علم، و جعل يوبخه. فلما سكت هشام، أقبل القوم عليه رجلا بعد رجل يسي ء الأدب مع الامام عليه السلام، فلما سكت القوم نهض الامام عليه السلام قائما ثم قال : أيها الناس أني تذهبون و أني يراد بكم؟ بنا هدي الله أولكم، و بنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجل فان لنا ملكا مؤجلا، و ليس من بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة، و يقول الله عزوجل : (و العاقبة للمتقين). فأمر به هشام الي الحبس. فلما صار في الحبس تكلم، فلم يبق في الحبس رجل الا ترشفه و حسن عليه، فجاء صاحب السجن الي هشام، و أخبره يخبره، فأمر به فحمل علي البريد، هو و أصحابه ليردوا الي المدينة.

و اذا كانت رواية الحضرمي تؤكد ان اطلاق سراح الامام عليه السلام من السجن الأموي كان بسبب تأثيره بالسجناء الذين التقي بهم، فان رواية محمد بن جرير الطبري في دلائل الامامة، تفيد أن اطلاق سراحه انما جاء بسبب تأثيره علي جماهير دمشق علي اثر مناظراته لزعيم النصاري هناك و دحض آرائه، و تبيان زيفها، و الرد علي كل الشبهات التي أثارها حول الاسلام، علي أنه ليس هناك من تعارض بين الروايتين اذ لا مانع من وقوع الحادثتين معا، فان الامام عليه السلام انما يتبع الهدي و الحق أينما حل، طليقا كان هو أم معتقلا، مادام هناك انسان يلقي السمع و هو شهيد.



[ صفحه 237]



و اذ لم تحقق المضايقة الأموية غاياتها الدنيئة في صد الامام الباقر عليه السلام عن النهوض بمهامه الرسالية العظمي، فقد رأت السياسة المنحرفة أنه ليس من اغتياله بديل [3] .

و في كتاب دلائل الامامة لمحمد بن جرير الطبري باسناده عن الصادق عليه السلام قال : حج هشام بن عبدالملك سنة من السنين، و كان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر و ابنه جعفر صلوات الله عليهما، فقال جعفر بن محمد عليه السلام : الحمدلله الذي بعث محمدا بالحق نبيا و أكرمنا به فنحن صفوة الله تعالي علي خلقه و خيرته من عباده و خلفائه، فالسعيد من اتبعنا و الشقي من عادانا و خالفنا قال : فأخبره مسلمة أخوه بما سمع، فلم يعرض لنا حتي انصرف الي دمشق و انصرفنا الي المدينة، فأنفذ بريدا الي المدينة لاشخاصي و اشخاص أبي، فأشخصنا فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم أذن لنا في اليوم الرابع، فأدخلنا عليه و اذا هو قد قعد علي سرير الملك و جنده و خاصته وقوف علي أرجلهم متسلحون و قد نصب الغرض و أشياخ قومه يرمون، فلما دخلنا و أبي أمامي و أنا خلفه فنادي أبي و قال : ارم مع أشياخ قومك الغرض.

فقال له أبي : قد كبرت عن الرمي فهل رأيت أن تعفيني؟

فقال : و حق من أعزنا بدينه و نبيه محمد صلي الله عليه و آله لا أعفيك، ثم أومأ الي الشيخ من بني أمية و قال : أعطه قوسك، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس، ثم انتزع السهم و رمي الغرض فنصبه فيه، ثم رمي الثانية فشق فوافق سهمه الي نصله، ثم تابع الرمي حتي شق تسعة أسهم بعضا في جوف بعض و هشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أباجعفر و أنت أرمي العرب و العجم، زعمت أنك كبرت عن الرمي؟ ثم أدركته ندامة علي ما قال، و كان هشام لم يكن أجل [كني أحدا] قبل أبي و لا بعده في



[ صفحه 238]



خلافته، فهم به و أطرق الي الأرض اطراقة يتروي فيه، و أنا و أبي واقفان حذاه موجهان نحوه، فلما طال وقوفنا غضب أبي و هم به و كان أبي اذا غضب نظر الي و السماء نظر غضبان يري الناظر الغضب في وجهه.

فلما نظر هشام من أبي ذلك قال له : الي الي يا محمد، فصعد أبي السرير و أنا اتبعه، فلما دنا من هشام قام اليه و اعتنقه و أقعده عن يمينه، و اعتنقني و أقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل علي أبي بوجهه، فقال له : يا محمد، لا تزال العرب تسودها قريش مادام فيها مثلك، فلله درك، من علمك هذا الرمي و في كم تعلمته؟

فقال أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي، فلما أراد أميرالمؤمنين ذلك مني عدت اليه.

فقال : ما رأيت مثل هذا الرمي منذ عقلت، و ما ظننت أن أحدا في الأرض يرمي هذا الرمي، أيرمي ابنك جعفر مثل هذا الرمي؟

فقال عليه السلام : نحن نتوارث الكمال و التمام اللذين انزلهما الله علي نبيه صلي الله عليه و آله في قوله الله تعالي : (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) [4] و الأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.

فلما سمع هشام ذلك من أبي انقلبت عينه اليمني و احولت و احمر وجهه، و كان ذلك علامة غضبه اذا غضب، ثم أطرق هنيئة، ثم رفع رأسه، فقال لأبي : ألسنا بني عبد مناف، نسبنا و نسبكم واحد؟

فقال أبي : نحن كذلك، ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره و خالص علمه بما لا يخص به أحدا غيرنا.

فقال : أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلي الله عليه و آله من شجرة عبد مناف الي



[ صفحه 239]



الناس كافة أبيضها و أسودها و أحمرها؟ من أين ورثتم ما ليس لغيركم و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مبعوث الي الناس كافة و ذلك قول الله تعالي : (و لله ميراث السموات و الأرض)؟ [5] الآية، فمن أين ورثتم هذا العلم و ليس بعد محمد صلي الله عليه و آله و سلم نبي و لا أنتم أنبياء؟

فقال عليه السلام : عن قوله تعالي لنبيه : (لا تحرك به لسانك لتعجل به) [6] لم يحرك به لسانه لغيرنا، أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه عليا عليه السلام من دون أصحابه، فأنزل الله تعالي بذلك قرآنا في قوله تعالي : (و تعيها أذن واعية) [7] ، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام من دون أصحابه : سألت الله عزوجل أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي عليه السلام بالكوفة : علمني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ألف باب من العلم ففتح لي من كل باب ألف باب خصه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من مكنون سره بما لم يخص به أحدا من قومه حتي صار الينا فورثناه من دون أهلنا.

فقال هشام : ان عليا كان يدعي عم الغيب و الله تعالي لم يطلع علي غيبه أحدا، فكيف ادعي ذلك؟

فقال أبي : ان الله جل ذكره أنزل علي نبيه كتابا بين فيه ما كان و ما يكون الي يوم القيامة، (و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين) [8] و في قوله تعالي : (ما فرطنا في الكتاب من شي ء) [9] و أوحي الله تعالي الي نبيه صلي الله عليه و آله و سلم ألا يبقي في غيبه و علمه و سره و مكنون علمه شيئا الا يناجي به عليا، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده و يتولي غسله و تكفينه و تحنيطه



[ صفحه 240]



من دون قومه و قال لأصحابه : حرام علي أصحابي و أهلي أن ينظروا الي عورتي غير أخي علي فانه مني و أنا منه، له ما لي و عليه ما علي، و هو قاضي ديني و منجز عداتي و وعدي. ثم قال لأصحابه : ان علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت أنا علي تنزيله، و لم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله و تمامه الا عند علي عليه السلام و لذلك قال رسول الله : أقضاكم علي، أي هو قاضيكم، و قال عمر : لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر و يجحد غيره.

فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك.

فقال : خلفت عيالي و أهلي مستوحشين لخروجي.

فقال قد آنس الله وحشتهم برجوعك اليهم و لاتقم، سر من يومك اليهم ثم نهض و نهضت معه و خرجنا الي بابه، و اذا ميدان به بابه و في آخر الميدان أناس قعود و عدد كثير فقال أبي : من هؤلاء؟

فقيل : هؤلاء القسيسون و الرهبان و هذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم، فلف أبي عند ذلك نفسه بفاضل ردائه ففعلت أنا كفعل أبي، فأقبل نحوه و قعد وقعت وراءه و رفع الخبر الي هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي، فأقبل و أقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا و أقبل عالم النصاري و قد شد حاجبيه بخرقة صفراء حتي توسطنا، فقام اليه جمع من القسيسين و الرهبان مسلمين عليه فجاؤوا به الي صدر المجلس فقعد فيه و أحاط به أصحابه و أبي و أنا بينهم، فأدار نظره فقال لأبي : أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟

فقال عليه السلام : من هذه الأمة المرحومة.

فقال : من أين أنت أمن علمائها أم من جهالها؟

فقال أبي : لست من جهالها.

فاضطرب اضطرابا شديدا فقال لأبي : أسألك؟

فقال أبي : سل.



[ صفحه 241]



فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون و يشربون و لا يحدثون و لا يبولون؟ و ما الدليل علي ذلك من شاهد لا يجهل؟

فقال أبي : الجنين في بطن أمه يأكل و لا يحدث. قال : فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا.

فقال : هلا زعمت أنك لست من علمائها.

فقال أبي : ولست من جهالها. و أصحاب هشام يسمعون ذلك.

فقال لأبي : أسألك مسألة أخري.

فقال أبي : سل.

فقال لأبي : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة غضة طرية موجودة غير معدومة عند أهل الجنة؟ و ما الدليل عليه من شاهد لا يجهل؟

فقال أبي : دليل ما ندعيه أن ترابنا أبدا يكون غضا طريا موجودا غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لاينقطع، فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال؛ هلا زعمت أنك لست من علمائها.

فقال أبي : ولست من جهالها.

فقال اسألك مسألة.

فقال : سل.

فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل و لا من ساعات النهار.

فقال له أبي : هي الساعة التي من طلوع الفجر الي طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلي و يرقد فيها الساهر، و يفيق المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا دليلا للراغبين و في الآخرة دليلا للعالمين، لها دلائل واضحة و حجة بالغة علي الجاحدين المتكبرين الناكرين لها. قال : فصاح النصراني صيحة عظيمة.

ثم قال : بقيت مسألة واحدة و الله لأسألنك مسألة لاتهتدي الي ردها أبدا.

فقال له : سل ما شئت، فانك حانث في يمينك. فقال اخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد و ماتا في يوم واحد، عمر أحدهما خمسون سنة



[ صفحه 242]



و الآخر عمره مائة و خمسون سنة.

فقال له أبي : ذلك عزير و عزرة ولدا في يوم واحد فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة و عشرين سنة مر عزيز علي حماره و هو راكبه علي بلد اسمها انطاكية و هي خاوية علي عروشها فقال : (أني يحيي هذه الله بعد موتها)، فأماته الله مائة عام ثم بعثه علي حماره بعينه و طعامه و شرابه لم يتغير، و عاد الي داره و أخوه عزرة و ولده قد شاخوا و عزير شاب في سن خمسة و عشرين سنة، فلم يزل يذكر أخاه و ولده و هم يذكرون ما يذكره و يقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنين و الشهور، و عزرة يقول له و هو شيخ كبير ابن مائة و خمسة و عشرين سنة : ما رأيت شابا أعلم بما كان بيني و بين أخي عزير أيام شبابي منك، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال : يا عزرة، أنا عزير أخوك، قد سخط الله علي بقول قتله بعد أن اصطفاني الله و هداني، فأماتني مائة سنة ثم بعثني بعد ذلك لتزدادوا بذلك يقينا أن الله تعالي علي كل شي ء قدير، و هذا حماري و طعامي و شرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله تعالي كما كان، فعند ذلك أيقنوا فأعاشه الله بينهم خمسة و عشرين سنة ثم قبضه الله تعالي و أخاه في يوم واحد.

فنهض عالم النصاري عند ذلك قائما، و قام النصاري علي أرجلهم فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني واقعد تموه معكم حتي هتكني و فضحني و أعلم المسلمين بأنه أحاط بعلو منا و أن عنده ما ليس عندنا! و الله لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة و لا قعدت لكم ان عشت بعد هذه.

فتفرقوا و أبي قاعد مكانه و أنا معه، و رفع ذلك الي هشام فبعث الينا بالجائزة و أمرنا أن ننصرف الي المدينة من ساعتنا و لا نجلس؛ لأن الناس ماجوا و خاضوا فيما دار بين أبي و عالم النصاري.

فركبنا دوابنا منصرفين و قد سبقنا بريد من عند هشام الي عامل مدينة مدين أن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي و جعفر بن محمد الكذابين



[ صفحه 243]



(بل هو الكذاب)، فيما يظهران من الاسلام وردا علي فلما صرفتهما الي المدينة مالا علي القسيسين و الرهبان من كفار النصاري و تقربا اليهم بالنصرانية، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما فاذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فانهما قد ارتدا عن الاسلام. فورد البريد الي مدينة مدين.

فلما شارفنا مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلا و يشتروا لنا و لدوابنا طعاما و علفا، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوههم و شتموهم و ذكروا علي بن أبي طالب عليه السلام و نالوا منه، و قالوا : لا نزول لكم عندنا و لا بيع و لا شراء يا كفار يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا أشر الخلق أجمعين.

فوقف غلماننا علي الباب حتي انتهينا اليهم، فكلمهم أبي ولين لهم القول و قال لهم : اتقوا الله و لا تغلطوا فلسناكما بلغكم و لا نحن كما يقولون فاسمعونا، و قال لهم : ان كنا كما قلتم فافتحوا لنا الباب و شارونا و بايعونا كما تشارون و تبايعون اليهود و النصاري.

فقالوا : ان هؤلاء يؤدون الجزية و أنتم ما تؤدون الجزية.

فقال لهم أبي : افتحوا لنا الباب و انزلونا و خذوا منا الجزية كما تأخدون منهم.

فقالوا : لانفتح لكم الباب و لاكرامة لكم حتي تموتوا علي ظهور دوابكم جياعا أو تموت دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي فازدادوا عتوا و نفورا فثني أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد الجبل المطل علي مدينة مدين و هم ينظرون اليه ما يصنع، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ثم وضع اصبعيه في أذنيه، ثم نادي بأعلي صوته : (و الي مدين أخاهم شعيبا - الي قوله - بقية الله خير لكم) [10] فأمر الله ريحا سوداء مظلمة فهبت



[ صفحه 244]



و احتملت صوت أبي و طرحته الي أسماع الرجال و النساء و الصبيان، فما بقي أحد منهم الا صعد السطوح و أبي مشرف عليهم.

فكان فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر الي أبي علي الجبل فنادي بأعلي صوته : اتقوالله يا أهل مدين، فانه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه السلام حين دعا علي قومه، فان أنتم لم تفتحوا له الباب و لم تنزلوه جاءكم من الله العذاب و اني أخاف عليكم و قد أعذر من أنذر، ففزعوا و فتحوا الباب و أنزلونا. و كتب بجميع ذلك الي هشام، فارتحلنا في اليوم الثاني فكتب هشام الي عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطمره، فأخذوه فطمروه.

و كتب الي عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب فلم يتهيأ من ذلك له شي ء [11] .

و في رواية أخري في كتاب كامل الزيارات عن أبي بصير رضي الله عنه عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : بعث هشام الي أبي فأشخصه الي الشام فلما دخل عليه قال له : يا أباجعفر أنا بعثت اليك لأسألك عن مسألة لم يصلح أن يسألك عنها غيري، و لا ينبغي أن يعرف هذه المسألة الا رجل واحد.

فقال له أبي : تسألني عما تحب، فان علمت أجبته و ان لم أعلم قلت : لا أدري، و كان الصدق أولي بي، فقال له هشام : أخبرني عن الليلة التي قتل فيها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بما استدل الغائب عن المصر الذي قتل فيه علي بن أبي طالب عليه السلام؟ و ما كانت العلامة فيه للناس؟ و أخبرني هل كانت لغيره في قتله علامة؟

فقال له أبي : انه لما كانت اللية التي قتل فيها علي عليه السلام لم يرفع فيها حجر عن وجه الأرض الا وجد تحته دم عبيط حتي طلع الفجر، و كذلك كانت الليلة التي قتل فيها يوشع بن نون عليه السلام، و كذلك الليلة التي رفع فيها عيسي ابن



[ صفحه 245]



مريم عليه السلام، و كذلك الليلة التي قتل الحسين بن علي عليهماالسلام، فتربد وجه هشام و امتعض و هم أن يبطش بأبي.

فقال أبي : الواجب علي الناس الطاعة لامامهم و الصدق له بالنصيحة، و ان الذي دعاني الي ما أجبت به فيما سألتني عنه معرفتي بما يجب له فليحسن ظنك.

فقال هشام : أعطني عهدالله و ميثاقه أن لا ترفع هذا الحديث ما حييت، فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه.

فقال هشام : انصرف الي أهلك اذا شئت فخرج أبي متوجها من الشام الي الحجاز.

فأركب هشام بريدا و كتب معه الي جميع عماله ما بين دمشق الي يثرب فأمرهم أن لايأذنوا لأبي في شي ء من مدائنهم و لا يبايعوه في أسواقهم و لا يأذنوا له في مخالطة أهل الشام حتي ينفذ الي الحجاز... الي آخر الرواية.



و الله ما عاد أتت بفعالهم

كلا و لا فرعونها و ثمود



لم يجرموا مثل اجترام هشامهم

و يزيدهم قد زاد و هو جحود



ما جاء في دين الاله فويله

قد هان عنه ما جني نمرود



يا ويلهم حسدا تمكن فيهم

لريائه ما قندماه حسود



قد أظهروا ساداتنا ما قد رأوا

من منكر و عفت بذاك حدود



موسي الكليم يفر من فرعونها

لبلاد مدين فالتقاه سعود



و هشام باقر علمهم لم ينج

من طغيانه و بها عراه صعود



فعليهم و عليه لعن دائم

و علي يزيد و للطغاة يزيد





[ صفحه 246]




پاورقي

[1] سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني 2 : 211 - 216.

[2] سورة النحل : 16 / 90.

[3] سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام / مؤسسة البلاغ 2 : 276 - 281.

[4] سورة المائدة : 5 / 3.

[5] سورة الحديد : 57 / 10.

[6] سورة القيامة : 75 / 16.

[7] سورة الحاقة : 69 / 12.

[8] سورة النحل : 16 / 89.

[9] سورة الأنعام : 6 / 38.

[10] سورة هود : 11 / 84 - 86.

[11] دلائل الامامة / الطبري الصغير : 231 - 241 / 162، بحارالانوار / المجلسي : 46 / 306.