بازگشت

علم الفقه


وفقه أهل البيت عليهم السلام أخذ معظمه من الامين الباقر و ولده الصادق عليهماالسلام و قد حفلت موسوعات الفقه الامامي - كالحدائق و الجواهر و مستمسك العروة الوثقي - بالروايات الكثيرة التي أثرت عنهما، و اليها يرجع فقهاء الامامية في استنباطهم للأحكام الشرعية، و في اصدارهم للفتوي، أما موسوعات الحديث كوسائل الشيعة و التهذيب، و من لا يحضره الفقيه و غيرها فأغلب ما فيها من الاحاديث قد أخذ عنهما، و قد شكلت تلك الموسوعات دائرة معارف للفقه الاسلامي هي من أروع و أثري ما قنن في عالم التشريع.

لقد جهد الامام الباقر و ولده الصادق عليهم السلام في نشر الفقه الاسلامي و تبنياه بصورة ايجابية في وقت كان المجتمع الاسلامي غارقا في الاحداث السياسية، و قد أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية اهمالا تاما، فلم تعد الشعوب الاسلامية تفقه من امور دينها لا القليل و لا الكثير.

يقول الدكتور علي حسن في كتابه نظرة عامة في تاريخ الفقه الاسلامي : «و قد أدي تتبعنا للنصوص التأريخية الي أمثله كثيرة تدل علي هذه الظاهرة - أي اهمال الشؤون الدينية - التي كانت تسود القرن الأول سواء لدي الحكام أو العلماء أو الشعب، و نعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، و التأرجح و عدم الجزم و القطع فيها حتي في العبادات، فمن ذلك ما روي ان ابن عباس خطب في آخر رمضان علي منبر البصرة فقال : (اخرجوا صدقة صومكم) فكان الناس لا يعلمون، فقال : من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا الي اخوانكم فعلموهم، فانهم لا يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئا، مما يدل علي أهل البلاد الاسلامية لم يكونوا يعرفون شؤون دينهم معرفة مفصلة، و قد كان يوجد في



[ صفحه 351]



بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة. فكان العلماء يرون سنة مخصوصة في ذلك، و كانت الحكومة تري رأيا مخالفا، و علي هذا جاء الحديث «سيأتي في آخر الزمان أمراء يميتون الصلاة، فأدوا الصلاة في وقتها».

فالحكام الأمويون لم يكن لهم أدني اهتمام بأمور الدين سوي بعض المظاهر من صلاة الجمعة أحيانا و صلاة العيدين، و أما الشعب - و أكثرهم علي دين ملوكهم - فكان في الواقع قليل الفهم و المعرفة للفقه و مسائل الدين، و لم يكن يعرف من هذه الشؤون الا أهل المدينة وحدهم.

فهذه هي الحقيقة، و هناك أمثلة و دلائل عديدة شاهدة علي حالة المجتمع الاسلامي هذه، و تتجلي هذه الحالة بشكل واضح في موسم الحج الأكبر حيث اجتماع المسلمين من مختلف الأمصار الاسلامية و نستدل علي ذلك من رواية عبدالرحمن بن كثير قال : حججت مع أبي عبدالله عليه السلام فلما صرنا في بعض الطريق صعد علي جبل فأشرف فنظر الي الناس فقال : ما أكثر الضجيج و أقل الحجيج؟! [1] .

و موقف آخر يمكن ان يكون دليلا يستشف منه تلك الحالة المتدنية من عدم فهم السنة و أحكام الدين و هو في موسم الحج أيضا اذ ينقل بعض من شاهده أيام الموسم فيقول : انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات، و يستفتحون أبواب المشكلات، فلم يرم حتي أفتاهم في الف مسألة ثم نهض يريد رحله. [2] .

ودع عنك مكانة الامام و شعبيته و اشتياق الناس لرؤيته، و نفوذه الواسع في قلوب المسلمين، كما قدمنا في أول الفصل، فان تعبير المشاهد بانثيال الناس و هو انصبابهم و تجمهرهم عليه لا للمشاهدة و السلام فحسب، بل لأجل



[ صفحه 352]



السؤال و الاستفتاء عن شؤون دينهم كما يقول الراوي فلم يبرح المكان حتي أجاب عن ألف سؤال، و لا نتصور أن الألف سؤال شي ء قليل، انما هذا أمر عظيم يبين لك بالاضافة الي ما قدمنا، شدة الجدب الفقهي الضارب في أوساط الأمة الاسلامية آنذاك.

و مقطوعة اخري و ليست أخيرة تبين ما ذهبنا اليه، حتي علي صعيد الشيعة و أحكامها الدينية بشكل عام، و ليس الحج فقط بل شمل الجهل مسائل الحلال و الحرام أيضا، ينقلها لناثقة المحدثين الشيخ عباس القمي، [3] ، فلنستمع اليه يقول : كانت الشيعة قبل أن يكون أبوجعفر عليه السلام و هم لا يعرفون مناسك حجهم و حلالهم و حرامهم حتي كان أبوجعفر عليه السلام ففتح لهم و بين لهم مناسك حجهم و حلالهم و حرامهم حتي صار الناس يحتاجون اليهم من بعد ما كانوا يحتاجون الي الناس.

كان هذا هو حال الأمة بشكل عام و علي أي حال فانه لما لم يكن في العالم الاسلامي في ذلك العصر من هو أدري بشؤون الشريعة و أحكام الدين غير الامامين الصادقين عليهماالسلام، فقد أسرع الي الأخذ من علومهما أبناء الصحابة و التابعون، و رؤساء المذاهب الاسلامية كأبي حنيفة و مالك و غيرهما، و قد تخرج علي يد الامام أبي جعفر جمهرة كبيرة من الفقهاء - كما مر بك آنفا - كزرارة و محمد بن مسلم و أبان بن تغلب، و اليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الامام عليه السلام كما كانوا من مراجع الفتيابين المسلمين كأبان بن تغلب بن رباح الذي عقد له الامام الباقر عليه السلام منصب الفتيا، فقال له : اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فاني أحب أن يري في شيعتي مثلك.

و كان أبان مقدما في كل فن من العلوم و منها : الفقه و الحديث و الأدب و اللغة و النحو. و قد ألف في ذلك كتبا كثيرة، منها كتاب في تفسير غريب القرآن،



[ صفحه 353]



و بذلك فقد أعاد الامام أبوجعفر عليه السلام للاسلام نضارته و حافظ علي ثرواته الدينية من الضياع.

و جدير ذكره أن شيعة أهل البيت عليهم السلام هم أول من سبق الي تدوين الفقه، و بناء الصرح الاسلامي، و حافظوا علي أهم ثرواته، ألا و هو فقه أهل البيت عليهم السلام الذي اتصف بمميزات رائعة جعلته في قمة الفقه الاسلامي و غيره من تلك المميزات :

أولا : اتصاله بالنبي صلي الله عليه و آله مباشرة، فهم سلام الله عليهم ألصق الناس برسول الله صلي الله عليه و آله و أدري بشؤون شريعته و أحكامه من غيرهم، فهم الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و جعلهم النبي صلي الله عليه و آله سفن النجاة، و أمناء العبد، و عدلاء الكتاب حسبما توارت الأخبار بذلك و استفاضت.

فالامام يروي عن آبائه عن رسول الله صلي الله عليه و آله عن جبرائيل عن الله تبارك و تعالي، و هل هناك سند أشرق من هذا السند أو أصح منه؟ و هل يجد المسلم الذي يبتغي وجه الله و الدار الآخرة طريقا يوصله الي الله أسلم و أضمن من هذا الطريق؟

ثانيا : المرونة و مواكبة الحياة : لأنه نابع من صميم الاسلام، يساير التطور و يتمشي مع جميع متطلبات الحياة. و قد نال اعجاب جميع رجال القانون، و اعترفوا بأنه من أثري ما قنن في عالم التشريع عمقا و أصالة و ابداعا.

ثالثا : فتح باب الاجتهاد : و هذه ميزة مهمة تميز بها فقه أهل البيت عليهم السلام عن بقية فقه المذاهب الاسلامية الاخري. فقد دلل ذلك علي أصالة هذا الفقه، و تفاعله مع الحياة و استمراريته في العطاء لجميع شؤون الانسان، و أنه لا يقف مكتوفا أمام مستجدات الأحداث، و أنه يعيش آفاقا رحبة وسيعة لها قابلية الامتداد مع عمر الزمن.



[ صفحه 354]



رابعا : حجية العقل في استنباط الأحكام : انفرد فقهاء الامامية عن بقية المذاهب الاسلامية فاعتبروا العقل أحد المنابع الأربعة - الكتاب و السنة و الاجماع و العقل - لاستنباط الاحكام الشرعية، و هذا ما أكسب فقه أهل البيت عليهم السلام حيوية و أصالة. فقد أضفوا علي العقل اسمي ألوان التقديس، فاعتبروه رسول الله الباطني، و أنه مما يعبد به الرحمن، و يكتسب به الجنان، و من البديهي أن الرجوع الي حكم العقل يكون فيما لو لم يكن في المسألة نص و الا فهو حاكم عليه.

و كما استعرضنا لنماذج من تفسير الامام للقرآن الكريم، نعرض لعينات من المسائل الفقهية التي اثرت عنه، اذ ليس من المستطاع الالمام بما ورد عنه عليه السلام من مسائل فان ذلك يستدعي تدوين موسوعة فقهية كبيرة، و ما لا يدرك كله لا يترك جله.


پاورقي

[1] بحار الأنوار / المجلسي 27 : 181.

[2] المصدر السابق 46 : 259.

[3] الأنوار البهية / المحدث القمي : 117.