بازگشت

اشعة المغيب


عندما استيقظ الصبي وجد نفسه في هودج في قافلة تخترق الصحراء بين المدنية و مكة، و قد تكاثفت الظلمات بعضها فوق بعض، و اشتد سطوع النجوم و سمع صوتا عرف فيما بعد أنه جده:

(و لما توجه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل)

و تذكر الصبي الذي ناهز الرابعة من عمره كيف اجلسه جده في حضنه و قبله و قال له:

- رسول الله يقرؤك الاسلام. [1] .

و ظلت الكلمات تطوف في روحه و خياله.

كانت القافلة تنساب في قلب الرمال في طريق تكاثفت فيه الظلمة وسطعت فيه النجوم.

كان الاطفال غارقين في نوم عميق و سفن الصحراء تنساب بين أمواج رمال تمتد الي الافق البعيد.

كان الصبي الذي يحمل اسم جده النبي يملأعينيه من السماء الواسعة المرصعة بالنجوم.

ربما كان هناك ما يرتسخ في اعماق ذلك الصبي الذي قدر



[ صفحه 10]



له ان يشهد اول ملحمة فداء في تاريخ الانسان.. كان القدر قد انتخبه ليكون شاهد [2] عصره.

انه الآن في آخريات عام 60 ه و قد مضي نصف قرن علي رحيل آخر الانبياء في تاريخ الانسان.

ربما تساول الصبي في اعماقه لماذا يحمل اسم جده و لماذا خصه الجد الراحل بتحية مباركة من عندالله؟

هذا العالم الملي ء بالأسرار الله سبحانه وحده الذي يراقب الاعماق يراقب حركة الانسان و الشاهد علي مسار التاريخ البشري و شاء سبحانه أن يختار من بين عباده شهداء.

و قد قدر للصبي الذي ناهز الرابعة من عمره أن يشهد حادثة خالدة حادثة لا نظير لها في تاريخ الانسان عند ما قدر له أن يكون أحد الذين رافقوا آخر الاسباط في حركته من أجل تصحيح مسار التاريخ من المدينة الي مكة و من مكة الي بقعة بالقرب من نهر الفرات حيث وقعت الواقعة الكبري.

لا أحد يعرف كيف مرت لحظات الحصار في تلك البقعة في دنيا الله... لا أحد يعرف بم كان يفكر الاطفال و هم يشعرون بالظمأ فيما كان الفرات تتدافع أمواجه نحو الخليج لماذا يمنعون الماء؟!

- كانت العيون الحزينة ترنو صوب الفرات.

شفاه يابسة تحلم بالمطر.. وفتيات بطهر الندي، بلغت قلوبهن



[ صفحه 11]



الحناجر يصغين برعب الي طبول قبائل تحلم بالغزو و السبي.. و نسور مجنونة تحوم في السماء.. تترقب لحظة الانقضاض..

هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة و مياه الفرات تتدافع خلف أشجار النخيل و بدت الذري متقدة.. الليل يوشك أن يهبط و حمرة المغيب القانية تستحيل الي رماد..

لقد حل الظلام في ذلك اليوم الحزين، كغراب يجثم فوق غصن ميت في مساء خريفي، و بدا هلال محرم قاربا تائها في سماء قائمة الحزن.. غراب يجوس خلال الخيام ينشر ظله الثقيل.. و آهات تصاعد من كل مكان و أمنيات خضراء تحلم بالمطر و الخصب و الربيع.

و يطل يوم عاشوراء ليكون أطول يوم في تاريخ الانسان.

كان الفجر يشبه رمادا ذرته الريح في العيون.

الفرات ما يزال يجري صوب الجنوب كحية تسعي و القبائل التي تحلم بالسبي و الأسلاب تنظر بعيون متنمرة الي مضارب خيام تعصف بها الريح من كل مكان.

اختلطت اصوات عديدة؛ رغاء جمال و صهيل خيول وقعقعة رماح و سيوف تبرق من بعيد.

و اشرقت الشمس حمراء حمراء بلون الدماء.. و التمعت ذري النخيل و توهجت ذرات الرمال و اصطبغت وجوه القبائل بلون



[ صفحه 12]



الجريمة.. لقد استيقظ الشيطان وراح يعربد كأنه يحتفل بجولته لقهر الانسان. الجموع المحتشدة تموج كالسيل.. تريد أن تستبيح العالم الاسلامي بأسره؛ لن يقف في طريقها سوي الحسين و قد وقف وحيدا، و ما عساها تفعل قافلة في مهب اعصارر فيه نار.. سبعون سنبلة خضراء تحدق بها آلاف و آلاف من الجراد!

كل العيون الحالمة ترنو الي راية ما تزال تخفق راية كتب عليهه «نصر من الله و فتح قريب...».

زالت الشمس وراحت تجنح نحو المغيب و المعركة التي بدأت مع طلوع الشمس سوف تنتهي مع انطفاء الشمس لتولد شمس أخري شمس تسطع في النفوس.. تعلم الانسان معني الحرية.. تعلم الانسان معني الحياة.

لا حياة مع الذل و لا موت مع الكرامة.. أجل سوف يبقي هذا اليوم الطويل شاهدا علي مجد الانسان عندما يلتحم بالسماء..

في هذا اليوم الخالد قهر الحسين الموت و الحق به الهزيمة.. من أجل هذا سيبقي الحسين ما بقي الضمير الانساني.

يا للهول هوت الراية شهيدة مضمخة بدماء الانبياء و هوي «ذوالفقار» بعد أن سطر في دنيا المقاومة اروع ملحمة في الاستبسال و هوي الحسين جسدا مجرحا تتدفق منه الدماء نافورة حمراء



[ صفحه 13]



حمراء بلون الحرية.

اجل أضحي جسد الحسين الآن هامدا بلا حراك بعد أن دوخ القبائل... أجل هو الآن ساكن أما روحه فقد استوعبت الوجود و التاريخ و الانسان...

انبرت عشرة خيول لترض الجسد الشهيد لتمزق الذي قال لا في زمن الخنوع.. لتحطم الذي لم يعرف الخوف و الهزيمة..

أجل اثبت الحسين في تلك الظهيرة العظمي انه من الممكن تدمير الانسان و لكن من المستحيل هزيمته.

و عندما عبرت الخيول من فوق جسد الحسين.. انهارت كل المقاييس و لم تعد هناك حدود.. و لم يعد هناك معقول و لا معقول و لم يعد هناك من مقدس.. كل العالم الاسلامي مستباح أمام خيل «يزيد».

و ظلت كلمات السبط تردد في المدي:

- يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته. أما أنكم لا تقتلون رجلا بعدي؛ فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي.

و لقد صدقت نبوء الحسين بعد أن اجتاحت جيوش يزيد المدينة المنورة و قتل المئات من الصحابة و انتهكت ألف عذراء..

و اعقب مذبحة الحرة في مدينة الرسول صلي الله عليه و اله و سلم أن حوصرت مكة



[ صفحه 14]



المكرمة و قصف بيت الله الحرام بالمجانيق و احرقت الكعبة و لم يعد هناك من حياء في عصر يزيد..

ان أصعب لحظة في حياة الاطفال أن يروا ذئابا بشرية تتدفق نحو خيام تعصف بها الريح من كل مكان..

و قد استعرت شهوة الغزو و النهب في النوفس المنحطة.

فر الاطفال علي وجوههم و قلوبهم تبحث عن رجل كان يحمي طفولتهم و يصون براءتهم.

الأيدي الصغيرة تتشبث بالريح و القبائل المتوحشة تطارد نسوة حاسرت و المخاطب البشرية تنتزع بقوة أقراطا و أساور.

و بدا «ذو حسم» ذلك الجبل المطل علي أرض الملحمة ناسكا حزينا أو شيخا أحنت هامته السنون؛ فهو ينظر ساهما الي ما يجري في هذه البقعة من دنيا الله. الذئاب البشرية ما تزال تعوي مأخوذة بشهوة النهب؛ كأعصار فيه نار كانت القبائل تعصف بالخيام و فر الاطفال كطيور هاربة من سفن غرقت وسط الامواج الهائجة.

مرت سنوات. سنوات طويلة ولكن الصبي الذي شهد الفاجعة لم ينس ولن ينسي ما حدث في ذلك اليوم الطويل؛ و طالما سمع



[ صفحه 15]



يقول:

- قتل جدي الحسين ولي أربع سنين و اني لأذكر مقتله و ما نالنا في ذلك الوقت. [3] .

و قد قدر لهذا الصبي الطاهر أن ينشأ نشأة جهلته يكتشف الطريق في زمن كثرت فيه الزلازل التاريخية و بعد أن جثم شبح الرعب الاموي فوق الأرض الاسلامية من تخوم خراسان حتي سواحل افريقيا علي المحيط.

و كانت كلمات والده العظيم قناديل تضي ء له دروب الحياة. لقد كان زين العابدين يمثل نقطة السلام و النور في ذلك الزمن العصيب العارق في ظلمات الظلم و القهر و الاستبداد.

و قد اطلعت الاجيال علي رسالة علي بن الحسين في الحقوق فكانت خمسين مادة حقوقية ما تزال حتي اليوم نابضة بالجلال مفعمة بالانسانية و الخير للناس كل الناس.

و كان محمد يتشرب كلمات والده فتصبح جزء من روحه وكيانه و تندمج في وجوده اندماج النور في النور و الهواء في الهواء ليصبح محمد امتدادا لوالده و استمرارا لمسيرته الانسانية.

و يكاد المرء يتصوره جالسا في حضرة أبيه يتلقي الكلمات.. كلمات الحق و الحقيقة و كشوفات الانسان عند ما تمسه السماء:

- يا بني!



[ صفحه 16]



لا تصحبن خمسة، و لا تحادثهم!

لا تصحبن الفاسق فانه يبيعك بأكلة فما دونها.

و يتساءل محمد:

- يا أبت و ما دونها؟!

فيقول الوالد الحكيم:

- يطمع فيها ثم لا ينالها.

و لا تصحب البخيل: فانه يقطع بك أحواج ما تكون اليه.

و لا تصحب الكذاب: فانه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب و يقرب منك البعيد.

و لا تصحب الأحمق: فانه يريد أن ينفعك فيضرك.

و قد قيل: عدو عاقل خير من صديق أحمق.

و لا تصحب قاطع رحم فانه ملعون في كتابه الله في ثلاثة مواضع: في سورة محمد قال تعالي: (فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمي أبصارهم) [4] .

و في سورة الرعد حيث يقول تعالي: (و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون مآ أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أؤلئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار). [5] .

و في سورة الاحزاب حيث يقول الله تعالي: (ان الذين يؤذون



[ صفحه 17]



الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا). [6] .

و يعلمه فعل الخيرات قائلا له:

- افعل الخير الي كل من طلبه منك، فان كان أهلا فقد أصبت موضعه و ان لم يكن بأهل كنت أنت أهله.

و ان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الي يسارك و اعتذر اليك فاقبل عذره [7] .

و في زمن أصبح فيهه الكذب أمرا عاديا في حياة المجتمع قال زين العابدين لأولادة:

«اتقوا الكذب؛ الصغير منه و الكبير، في كل جد و هزل: لأن الرجل اذا كذب في الصغير اجترا علي الكبير».

و قال له مرة:

- يا يني العقل رائد الروح، و العلم رائد العقل و العقل ترجمان العلم واعلم ان اعلم ابقي، و اللسان أكثر هذرا.

و ان اصلاح الدنيا بحذ افيرها في كلمتين، بهما اصلاح امعائش مل ء مكتال ثلثاه فطنطة و ثلثه تغافل..

لأن الانسان لا يتغافل عن شي ء قد عرفه ففطن له.

و اعلم ان الساعات تذهب عمرك، و انت لا تنال نعمة الا بفراق أخري و اياك و الامل الطويل فكم من مؤمل لا يبلغه، و جامع مال لا يأكله، و مانع مال سوف يتركه، و لعله من باطل جمعه، و من



[ صفحه 18]



حق منعه، أصابه حراما وورثه و احتمل اصره وباء بوزره و ذلك هو الخسران المبين). [8] .

و تنفذ هذه الكلمات في أعماقه نفوذ الماء في أغوار الأرض و تتجذر في روحه لتنبت و تعطي أكلها بعد حين.. سوف تتفتح في وجوده عبقرية فريدة؛ و سوف تجده يشمر عن ساعديه يبقر أرض المعرفة بقرا، مستخرجا كنوز العلم و الثقافة الأصيلة ليتألق في سماء المعرفة و يعرف لدي الناس بالباقر.


پاورقي

[1] تاريخ دمشق: 51 / 38، سير اعلام النبلاء: 4 / 241.

[2] الشهاد من ألقاب الامام محمد الباقر / جنان الخلود / ناسخ التواريخ بالاستناد الي باقر شريف القرشي حياة الامام الباقر: 1 / 31.

[3] تاريخ اليعقوبي: 2 / 61.

[4] محمد: الآيتان 22 - 23.

[5] الراعد: الآية 25.

[6] الاحزاب: الآية 75.

[7] تحف العقول: 282.

[8] كفاية الأثر: 319.