بازگشت

رحيل السلام


و في المدينة المنورة في تلك الليلة الشتائية القارسة البرد افتقد الفقراء ذلك الرجل الذي يحمل تحت جنح الليل الخبز و الدف ء..

لقد انتظروا طوال الليل ولكن دون جدوي و تمر الساعات بطيئة في ليلة تسمرت في سمائها النجوم..

و لم تغمض عيون في المدينة...و الرياح الباردة تجوس الازقة.. تعوي و تولول و هي تطرق النوافذ و الابواب..

حتي اذا طلع الفجر.. سكن كل شي ء.. و قد انطفأت النجوم و انبعثت صرخة في قلب الغبش الرمادي.

لقد رحل علي بن الحسين زين العابدين.. و عندها عرف الفقراء هوية الرجل كان يجوس ازقة المدينة و الليل و يهب الفقراء الدف ء و الفرح و الأمل..

و لما انثالت علي جسده الطاهر المياه رأي الناس آثارا فسألوا ما هذا؟

أجاب حفيد له:



[ صفحه 37]



- لقد كان يحمل علي ظهره جرابا كل ليلة فيطرق منازل الفقراء..

و بكي الناس بفجيعة و مرارة.. لقد رحل السلام فالمدينة يلفها برد و ظلام..

و كانت المدينة تبكي بصمت.. تبكي لرحيل الأشياء الملونة لم يبق منها سوي أطياف تحلق في سماء الذكريات.

و لم تمض سوي أيام حتي سمع الناس نبأ اعتقال الفقيه سعيد بن جبير في مكة بناء علي أوامر من الحجاج و سيق مخفورا الي واسط في العراق.. و هناك وقف سعيد أمام جلاده وقفة أدهشت الذين حضروا اللقاء و ادهشت التاريخ.

و عند ما هوي رأس الشهيد في بلاط الجلادين سمع الحاضرون صرخة تنطلق من الرأس كان يهتف بصوت فصيح: الله أكبر.

و قد اندهش الحجاج الذي كان ينتشي لمنظر الدماء.. اندهش لسيل الدم المتدفق التفت الي طبيبه النصراني تياذوق متسائلا..

قال طبيب الجلادين:

- أن كل الذين قتلهم كانوا خائفين.. فيتجمد الدم في عروقهم قبل أن يموتوا.. ما توا قبل أن يقتلوا.. أما سعيد فلا.. ان



[ صفحه 38]



قلبه ظل ينبض بنفس الطمأنينة..

أجل انها طمأنينة الانسان المؤمن.

و من يومها أصيب الحجاج بلوثة في عقله و كان يصرخ بهستيرية: ما لي و لسعيد بن جبير!

و لم يلبث الجحاج بعد ذلك الا يسيرا و اصيب بمرض خطير جعله يتمني الموت من العذاب.

و مات اجلاد بعد أن حكم العراق بالحديد و النار أكثر من عشرين سنة ووجد في سجونه ثلاثة و ثلاثون ألف سجين بينهم ستة عشر ألف أمراة في ظروف مأساوية.

و أخيرا مات جلاد العراق [1] و تنفس العراقيون الصعداء الي حين.في مثل هذه الظروف السياسية العاصفة تصدي محمد بن علي بن الحسين الي مسؤوليته في الامامة و هو في السابعة و الثلاثين من عمره.

كل شي ء كان يهتز و لم تكن هناك من معايير راسخة حيث التيارات الفكرية هي الأخري تعصف بالامة يمينا و شمالا و لم تكن هناك مدرسة فكرية تستند الي فكر عميق ينهل من معين صاف؛ من أجل ذلك سوف نري نجل زين العابدين يشمر عن ساعديه ليبقر العلم بقرا فتتفجر ينابيع عذبه و تسيل أودية بقدر. و سوف



[ صفحه 39]



يدعي الشاب بعد برهة بالباقر، و سيفاجا سكان المدينة المنورة بالصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ينقل الي الامام تحية من جده الرسول؛ تحية من عند الله مباركة طيبة [2] .

أجل في غمرة تلك الظروف تصدي الامام لقيادة طائفة مقهورة مطاردة مضطهدة كانت السيوف الاموية و معتقلاتها تطحنها طحنا اضافة الي مسؤوليته في ترشيد العالم الاسلامي و هو يموج بالأفكار الفوافدة الغربية لا يعرف المرء من اين أتت و كيف انتشرت.


پاورقي

[1] ولد الحجاج سنة 40 ه و دخل سلك الشرطة في الشام في حكومة عبدالملك و قد نصبه الخليفة قائدا علي الجيوش الشامية التي تحركت لاسترداد الحجاز من عبدالله بن الزبير فنجح في مهمته و عينه عبدالملك حاكما علي مكة و المدينة و الطائف و ضم اليه حكم العراق ابان القلاقل؛ فاتجه الي العراق و تمكن من اخماد الانفاس؛ فحكم العراق عشرين سنة و امتلأت في عهد السجون كما حول العراق الي مسرح لعمليات دموية رهيبة و قامت سياسته علي الارهاب و البطش بالمعارضة و شغل العراق و العراقيين بحروب توسعية و لم يشهد العراق حاكما بهذا المستوي من القسوة الي أن ظهر صدام في سنة 1979 و بدأ عصر المذابح المروعة و الحروب المدمرة التي بدلت العراق الي خرائب و انقاض و سحق شخصية الشعب العراقي و كرامته و قد فوجي العالم بالمقابر الجماعية و التي اذا ما كشفت جميعا فأنها ستكشف عن مصير فجيع لأكثرء من خمسة ملايين من رجال العراق و نسائه، و قد حكم صدام العراق بالحديد و النار زهاء عشرين سنة و خلفت حروبه و مغامراته و مذابحه بحق العشب العراقي ملايين اليتامي و الأرامل و ما تزال مأساة العراق قائمة حتي الآن بالرغم من سقوط الطاغية الدكتاتور.

[2] جاء في تاريخ بن عساكر ج 51 ان الامام زين العابدين دخل علي جابر بن عبدالله الانصاري فقال له جابر: من معك يا بن رسول الله؟ قال: معي ابني محمد، فأخذه جابر وضمه اليه و بكي ثم قال: اقترب أجلي، يا محمد! رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم يقرؤك السلام فسأله الامام و ما ذاك؟ فقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم يقول للحسين بن علي: يولد لابني هذا ابن يقال له: علي بن الحسين، و هو سيدالعابدين اذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيدالعابدين فيقوم علي بن الحسين، و يولد لعلي بن الحسين ابن يقال له محمد اذا رأيته يا جابر فقرأه مني السلام.. يا جابر اعلم ان المهدي من ولده، و أعلم يا جابر ان بقاءك بعده قليل.

و هناك روايات تختلف في بعض التفاصيل لكنها جميعا تتفق علي أن النبي صلي الله عليه و اله و سلم حمل جابرالانصاري رضي الله عنه ابلاغ حفيده تحية الاسلام المباركة لتضاف الي معجزات النبي صلي الله عليه و اله و سلم و قد حفظ الصحابي الوفي رسالة الرسول صلي الله عليه و اله و سلم أكثر من ستين عاما لم يساوره شك في صدق ما وعد به النبي صلي الله عليه و اله و سلم.