بازگشت

حوار في الشمس


كانت أمواج السراب تتلاطم في الأفق البعيد، و قد بدت بيوت المدينة قوارب صغيرة تطفو و تغرق كطيوف باهته.

كان ابن المنكدر [1] يمشي غير مكترث بشواظ الشمس و هي تلفح الوجوه و الاشياء باللهب..



[ صفحه 47]



جسمه يتصبب عرقا غزيرا تحت وطاة الظهيرة العظمي و المياه المالحة تفر من مسامات جلد معذب بالحر و الصوف غير ان ابن المنكدر لم يكن يعبا بكل ذلك و كانت تعتريه نشوة صوفية تأخذه بعيدا؛ فتهيم روحه في تلال من ضوء سكرة بخمرة سماوية عجبية! انه لا يشعر بالسعادة كما الآن مذ ترك الدنيا لاهلها و لاذ بعالم شفاف و ندم علي سنوات من عمره أمضاها في العمل و الكدح في عالم يموج بالفتن، بالثورات المشتعلة كحرائق مجنونة اما الآن فهو سعيد.. روحه تسبح في تلال من نور، و اصبحت حياته أحلاما ملونة..

فجأة استيقظ من أحلامه عند ما وقعت عيناه علي منظر مثير.. غمغم:

- أجل انه بعينه أبوجعفر الرجل الذي بقر العلم ولكن ماذا يفعل في هذه الظهيرة.

انه عائد من عمله في بستان له ولكن اليس من الأفضل أن يتفرغ و هو في هذه السن للعبادة و يدع الدنيا؟!

حث خطاه الي حيث يقف الامام عند ساقية صغيرة كان الرجل القرشي الهاشمي يتصبب عرقا غزيرا و هو في شمس تتدفق لهبا:

صر ابن المنكدر علي اسنانه و قال بصوت مسموع:



[ صفحه 48]



- و الله لاعظنه..

قال هل وقد وقف قبالته:

- أصلحت الله! شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علي مثل هذه الحالة في طلب الدنيا!! ألا تخشي أن يجيئك الموت و أنت علي هذه الحال؟

أجاب الذي بقر العلم بقرا:

- و الله لو جاءني علي هذا الحال جاءني و أنا في طاعة من طاعات الله اكف بها نفسي عنك و عن الناس و انما أخاف الموت اذا جاءني و أنا علي معصية.

جفف ابن المنكدر جبينه الذي تصفد عرقا من الحر و الخجل.

أدرك في تلك اللحظة أن العمل عبادة.. طاعة لله.. طريق للحرية و الكرامة الانسانية.

رفع رأسه و كان قد أطرق مليا و قال:

- رحمك الله أباجعفر أردت أن أعظك فوعظتني.

و انصرف الرجل الصوفي فيما راح الامام يبقر الأرض و يعلم الانسان ان العمل و الكدح محراب عبادة لا استغراق في الدنيا.. هكذا قال جده من قبل.. ما تزال كلماته في القلوب المؤمنة.

من أجل هذا كان منهج الامام هو احترام العمل و شجع عليه قاطعا الطريق علي اولئك الذين فسروا الزهد بانه انسحاب من



[ صفحه 49]



ميادين العمل الي الكسل و قد سمع الامام يقول:

- الكسل يضر بالدين و الدنيا.

و قال يحث بعض أبنائه و من يؤمن به و رسالته:

- اياك و الكسل و الضجر فانهما مفتاح كل شر، من كسل لم يؤد حقا و من ضجر لم يصبر علي حق.

و قال ممجدا العمل و العامل:

- من تسلح لطلب المعيشة و الجد فيها خفت مؤنته ورخا باله و نعم عياله.

و دمج الجانب الأخلاقي بالحياة الاقتصادية فقال:

- بسعة الخلق تطيب المعيشة.

و يتأمل عليه السلام في زوايا عصره و ما يجري حوله؛ فيري أن وراء هذه الفوضي جهل مريع بالينابيع الصافية، حيث منشأ الأفكار الأولي التي غيرت وجه الدنيا، و جهل بالتاريخ الاسلام حيث كل شي ء يكتبه السلطان بأقلام مأجوره؛ فيما وقائع التاريخ الاسلامي مودعة في ضمير السلف الصالح لا يستطيع نقلها الا همسا من أجل هذا و ذاك شمر عليه السلام عن ساعديه وراح يبقر حقول العلم و يفجر ينابيعه لتسيل أودية بقدرها..

و من أجل هذا سمع عليه السلام يمجد العلم و العلماء قائلا:

- تعلموا العلم؛ فان تعلمه جنة، و طلبه عبادة، و مذاكرته



[ صفحه 50]



تسبيح و البحث عنه جهاد، و تعليمه صدقة، و بذلة لأهله قربة.

و العلم منار الجنة، و أنس الوحشة، و صاحب في الغربة و رفيق في الخلوة، و دليل علي السراء، و عون علي الضراء و زين عند الاخلاء، و سلاح علي الاعداء.

يرفع الله به قوماا ليجعلهم في الخير أئمة، يقتدي بفعالهم و تقتص آثارهم» [2] .

و سمع عليه السلام يقول:

- عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد.

و اعتبر عليه السلام مجالسة العلماء المتقين في طليعة منابع العلم و مصادره: - لمجلس اجلس الي من أثق به أوثق في نفسي من عمل سنة. [3] .

هكذا يستحيل طلب العلم في جلسة واحدة الي ما هو أفضل من عباده سنة.

و جعل من تذاكر العلم طريقا الي الآفاق الواسعة والي انفتاح ميادين جديدة: - تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة [4] .

و دعا الي نشر العلم لأن العلم نور يطرد ظلمات الجهل و زكاة العلم في نشره بين الناس:



[ صفحه 51]



- زكاد العلم ان تعلمه عباد الله.

- ان الذي تعلم العلم منكم له أجر مثل الذي يعلمه، و له الفضل عليه، تعلموا العلم، من حملة العلم،و علموه اخوانكم كما علمكم العلماء.

والعلم في رأي الامام خزائن و ما الاسئله و التساؤلات الا مفاتيح لاستخراج ما في تلك الخزائن من كنوز:

- العلم خزائن و المفاتيح السؤال فاسئلوا.

و الامام يدعو الي تطبيق المفاهيم العلمية في واقع السلوك و الحياة لأن العلم بلا عمل ربما يتحول الي خطر يهدد الكيان الانساني:

1 - اذا سمعتم العلم فاستعملوه فان العلم اذا كثر في قلب الرجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه.

و نهي عليه السلام عن المباهاة بطلب العلم لأن الهدف الحقيقي من طلب العلم هو الامتلاء، و الامتلاء يؤدي التواضع، كما السنابل المملوءة في الحقل تنحني؛ أما الفارغة فتراها منتصبة بغرور.

- من طلب العلم يباهي به العلماء أو يماري به السفاء فليتبوء مقعده من النار. [5] .

و وضع عليه السلام معيارا رائعا للعالم الحقيقي و هو معيار أخلاقي بحت:



[ صفحه 52]



- لا يكون العبد عالما حتي لا يكون حاسدا لمن فوقه، و لا محتقرا لمن دونه. [6] .


پاورقي

[1] احد الصوفيين ترك العمل و انصرف الي العبادة.

[2] تذكرة ابن حمدون: 26.

[3] أصول الكافي: 1 / 34.

[4] المصدر السابق.

[5] المصدر نفسه: 1 / 47، جامع السعادات: 1 / 106.

[6] تحف العقول: 294.