بازگشت

المقدمة


ان في الكلمة الأولي الموجهة الي السيد الجليل الإمام الباقر ما يشدد الظن بأن الرجل العظيم الذي هو محمد بن علي بن الحسين بن أميرالمؤمنين الإمام علي (ع) هو حلقة متينة من حلقات السلسلة المتدرجة علي خط الامامة، و هي في خلدي: مجتمع و أم و حقل صيانة.

لقد أشار اليه اللمح - كما سيشير التبسط في التوضيح المحلل و المعلل - بأنه رائد من الرواد الكبار، عرف كيف يعالج القضايا الفكرية - الحياتية - المصيرية، و كيف يحيطها بالتعهد و الدراية حتي يستقيم لها حق و أود، و يستمرّ بها نقاء و رواء.

ان الخطوط التي لمحتها هذه الكلمة، بما قدمته من رموز أو مضامين، تكتفي بالتدليل الي أن هموم الإمام في سياسة الأمة قد انحصرت - بنوع مميز - في التدريس و ايصال العلوم، بكافة حقولها، الي الأذهان، و بذلك يكون الحاكم قد اطمأن بأن الحكم هو له وحده في بسطة السلطات، و تعهد الأحكام، و ادارة الدولة... غير أن الحقيقة الصارخة تصرح بأن السياسة الصالحة لن تنال مجتمعا من مجتمعات الانسان ما لم يحدد معالمها: الفهم و الوعي و الادراك. ان الثقافة وحدها هي القمينة بامتصاص المعايير المبذولة في التوجيه و التهذيب و صدق الانصياع، و لن يكون غير الاقتناع ملما بوضوح البث، و تلك هي الثقافة العامة التي تعين



[ صفحه 22]



المضامين و توضح الأهداف. ان المجتمع - في الرفاهية تلك - هو المسترشد بالحق، و المستنير باليقين، و عندئذ - و لا شك بصحة الافتراض - فالحاكم هو المنبوذ إذا تاهت به قدمه عن الدائرة المستنيرة، ان في الصواب شمسا تدل اليه، شرط أن يقوم العلم و الفهم بجلوة العين من قذاها.

ليس للبحث الآن مجال للتوسع فيه و تعزيزه بالشروح الناطقة، سيكون لنا - و نحن نغوص في سيرة إمامنا الباقر - ما يجعلنا نأخذ منه - بالتدريج - مصداقية القول و مصدقية الاتجاه، و ها نحن نلمح مسبقا عنه بأنه ابتعد عن السياسة التي يخوضها الحاكمون و هم علي الكراسي المدبجة بذهب و تارج و صولجان، وراح إلي بهو خاص له، و الي مسجد مشرع الأبواب، لجده النبي الرسول، يجمع التلاميذ المتشوقين الي المناهل، يسكب في أذهانهم و ألبابهم، قطرات قطرات، مما أدخره في خزائن نفسه من علم، و نور، و حق و صواب.

لقد صدق الحاكمون الرجل و ما كذبوه في تنازله لهم عن سياسة تخولهم حق التصرف بالأرزاق و الأعناق، و من العجب العجاب أنهم لمحوا تخطيطا عنده لغد تتقدس فيه الأرزاق و تتحرر فيه الأعناق، ولو كان لهم أن يلمحوا، لما كان لهم أمس من ضياع، و غد من غباء، أو يوم من ظلم بلا فجر من رجاء.

منذ الزمن الأول، و الجزيرة العربية تتلملم علي تسوقات النداء، و تحققت لها علي يد النبي العظيم آيات النداء، و تنزلت لها الآيات و التمت في كتاب راحت تقرأ فيه كل ما هو موزع علي جدولين: جدول للحق، و جدول للباطل. و هو وحده المعروف، و هو وحده المرجو في لمة الشمل لمقابلة الفجر و استقبال الأشعة، و الباطل هو الشر، و هو وحده في سحنة المنكر، و هو وحده المخزي في تفتيت الجماعات ورميها في بؤرة الخيبة.

وراحت الجزيرة كلها تقرأ أيضا في الكتاب: أن العلم وحده منبت



[ صفحه 23]



السنابل، و صانع الطحين، و مرويه في عملية العجن، و مرققه علي لوحة الفران، و مشهيه خبزا علي المائدة الكبري التي هي الأمة المثلي الصالحة لأن تكون هديا لكل أمم الأرض.

أترانا وصلنا الي الدرب الذي اختطه الإمام الباقر في تنحيه، عن السياسات المعوجة الضائعة عن تعهداتها السليمة؟! ولكن العلم الذي راح الإمام الآن الي معالجة شؤونه، انما هو - أساسا - من مسؤولية المتولي ادارة الأمة في جميع شؤونها الحياتية، المادية و الروحية علي السواء، و ذلك ما فات الأمة منذ ما يقارب العشرة عقود... لقد تربت لها الخطوط الامامية للقيام بكل ما يلزم من تعهدات، و كان العلم من أجلها في البروز و التعهد، لقد قام الإمام الباقر بتنشيط مدرسته الباقرية باعتبارها استئنافا لنشاطات أخري كان لأبيه الإمام زين العابدين أن عمد إليها سدا لفراغ رماه فيه حزنه الكبير علي أبيه الحسين سيد المستشهدين! و إنها ذاتها المدرسة الأولي التي رسم أساستها ركيزة الأئمة الإمام علي أميرالمؤمنين.

و لا الإمام علي تمكن من تتميم التعهدات المرتبطة بخط الامامة، و قد لبعت بها دعابات السقيفة... ثلاث سنوات عجاف شلت عهد الإمام و ألقته صريعا علي بوابة المسجد، يختزن العلم كي يفهم المتخبئين خلف حيطان الجريمة، بأن الشر ليس نصف الكلمة، ليكون الخير نصفها الآخر - و كذلك الاذعان ليس نصف الكتاب، ليكون العصيان نصفه الآخر!!!.

فالخير و الشر ليسا الكلمة البهية... انما الخير وحده هو الكلمة البهية و العصيان و الاذعان ليسا الكتاب المرجا، انما الإذعان وحده هو الكتاب المرجا.

لقد ألهيت كثيرا مدرسة الإمام علي (ع) عن تركيز ذاتها، و توسيع فروعها، و هكذا بقيت نائمة في ردهة الانتظار أما الإمام الحسن، و قد عاد من الكوفة إلي يثرب، بعد أن لملم الأمة و رأب صدعها من الانفراط، فإنه



[ صفحه 24]



لجأ الي مدرسة أبيه ينشط تياراتها النائمة علي مهد الإمام الصريع، ولكنها تخدرت بالسم ذاته الذي انتقعت به عروقه الزكية... إنه الشر الذي هو نصف الكلمة عند معاوية، عطل به - هذا المعاوية - خيرا يتمرس به الإمام الثاني بادعانه لكل ما جاء في آي الكتاب.

وحده الإمام الحسين - بعد مقتل أخيه الحسن بالسم - وسع المدرسة الطالبية و مهرها بالدم، ليكون العنفوان - بدوره - مادة من مواد التعليم: كالحساب و كل العلوم الرياضية، و كالجغرافيا و كل السهوب الهندسية، و كالفيزياء و كل المعادلات الكيميائية، و كالفقه و كل المفازات الفلسفية، و كالطبابة و كل اسعافاته الوقائية.

أما الأخلاق، و ما يشوهها من المآرب، و الغايات، و ربط الدنيا بأحزمة لا هي من عزاء، و لا هي من رجاء، فانها بقيت وحدها حصة المتلاعبين بالكلمة، يفتتونها حروفا، و يجمعونها أهواء لا هي خير و لا هي شر، بل هي عقدة الداء!

هو الإمام الباقر، يترصع لنا الآن فيه الرصيد. يبدو أنه لم يصطبر علي الأيام حتي تنقاد له من تلقاء ذاتها، بل أنه تعجلها بذكائه و طول أناته، و بفيض من نباهة، و حكمة، ورواء، فجاءت طيعة بين يديه، مفسحة له في الانصباب علي تركيز و توسيع المناهل التي تحتاجها الأمة حتي تتخلص - رويدا رويدا - من عطش فيه من الذل أكثر مما فيه من الحريق!!!.

لقد قلنا - منذ لحظات - ان من في يدهم الأمر، علي عهد الباقر، قد أرضاهم انصراف الإمام إلي مهمة التدريس، و توسيع مدرسته بالفروع العلمية، و منها الجليل النادر: كالفيزياء و الكيمياء، و دروس الأشياء، و كالحساب، و الطب، و الجغرافيا، و ما شابهها من هندسة و رياضيات. الي جانب علوم أخري تتنشط بها البصائر و الضمائر، كعلم الحديث، و التفسير، و الفقه، و الفلسفة.



[ صفحه 25]



إنها رائعة مدرسة الإمام الوسيعة و المريدة، يملأها من عمره بالساعات الطوال المجهدة، و تحتل من مضامين فكره، و روحه، و دمه و أعصابه، ما يجعلها قطعة من وهج حي متحرك، تنبض بها سقوف المسجد و حيطان المسجد، و كل الحصر الممدودة في صحن المسجد.

لقد لذّ للولاة هؤلاء، ولو كانت أسماؤهم هكذا مكرورة: مروان بن الحكم بن العاص، أم عبدالملك بن مروان، أم سليمان بن عبدالملك، أم يزيد أخوه الذي هو غير يزيد بن معاوية، أم ابن عبدالملك الأخير الأحول و البخيل و المشهور بهشام... أجل، لقد لذّ لهم كلهم أن يرمقوا الإمام غارقا في زنزانته المدرسية، تاركا لهم وحدهم الحكم و الولاية، من دون أي ازعاج أو أي تشويش يتلاعب بساحات أو بزواريب يثرب، كما تلاعبت بها - منذ حين - ثورة الحرة.

هنالك وال واحد - يا للنعمة - و هو من ذات الأرومة، طابت فيه السجية، و لانت في صدره العريكة، دخل المسجد و الإمام فيه نصف رابض علي حصير، يلقي الدرس و يعطفه من تفسير الي تيسير، و حوله صفوف من فتيان، و من كهلان، و حتي من شيوخ، و كلهم رضوان و كلهم ركع يصغون.

لقد بهر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بالدرس الخارج من بين الثنايا كأنه قطعة من صلاة، مع أنه حديث منقول من شفة الي شفة كانت تطرح السؤال علي شفة الرسول.

إنها نبذة قد يبدو أنها تقريظ لما يوقم به جهد الامام، ولكنها ليست لأكثر من التدليل عن صدق المواهب فيه، و هي الطائعة بين يديه، في روعة البث و روعة الأسلوب، و هي ذاتها - في صدق دفقها، و عمق مداها - تجمع له احترام الناس و ثقتهم به. و من هنا أن الولاة أنفسهم - و قد كرهوه - و منهم الظالم و منهم المستبد، و منهم الكافر العاتي، ولكنهم كلهم



[ صفحه 26]



سكتوا تحت ظل عينيه، لأن في عينيه قبسا شبيها بما كانت تشع به عين الرسول.

أظن المقدمة - و قد تداخل بها العرض - قد أوصلتنا بوضوح الي مبتغانا - و ها نحن نقرع الباب ليكون لنا سماح في الدخول الي المحراب السني. خطوة خطوة سنلملم الدرب في الولوج، معصومين باحترام متين، و نحن نسدد النظر اليه: منذ أن أطلت به عينان ناعستان بالضوء الخفي، الي أن تعمض جفناه علي المدي الآخر المنور، و قد وسعته بالعلم، و اضاءته بالفهم جهود له متنسكة للحق، و بالحق مقبورة.



[ صفحه 29]