بازگشت

الرسالة


و الرسالة - انها خط من خطوط الطول، ليكون لها - من مداها - ظل يتألف منه خط العرض. أما خط الطول فمعناه غوص في عالم الروح، و استنجاد بقوي الفكر، و استغراق يوجه الشوق الي مجالات اليقين، و استغاثة بالخيال يقرع أبواق اليقين المفتوحة علي سرمد بهائي يستنير به انسان الأرض. ان الله مخبوء في الرسالة تبسط للانسان كل ما أفرغه عليها الغوص في كنه الوجود الممدود علي كف الخالق الذي هو كل روعة الوجود. ان الله في حرف الرسالة: فهو الوجود و كل الوجود، و هو الجمال و كل الجمال، و هو الكمال، و هو الحق، و هو الخير، و هو - وحده - المثال و المآل.

أما الخط العريض فمعناه انتقال الرسالة من حالة الغوص الكبيرة الي حركة التبشير الصغيرة، و هي الموجهة الي الإنسان.

ان الغواصين هم أولئك القلائل النادرون، يتناولون الغوص وصولا الي يقين يوجهون به الانسان و يبنونه أمة راشدة، و مجتمعا سليما... انهم المنتهون الي يقين بأن الله هو المهيمن علي الوجود: فإذ لا يري، تتأكد رؤيته المليئة به.

فالفكر يدركه، و ما يقع تحت العين أو ما يفوتها، يدركه. و ما يلمحه الخيال أو ما لا يلمحه الخيال، يدركه، كما و إن انتفاء الفراغ يدركه.



[ صفحه 39]



و كل ما يغيب عن العين، و عن الأذن، و عن الحس، و عن مطلق المسافات، يدركه... فليكن المصدر، وليكن اليقين. وليكن الوحيد، و في مطلق الحال فليكن الدين.

ولكن الغوص الذي غرق فيه الأمين محمد، أكان خمسا و عشرين سنه في عب غار، أم كان - علي مدي العمر - في قلب مجتمع الجزيرة المشحونة بالنار، و بالغبار، و بعدد لا يحصي من مئات القبائل السائبة بين خطوط النار و زحمات الغبار، انما هو غوص كان مميزا عن أي غوص ساح فيه الأسبقون. و لم يكن الأسبقون - في مطلق الحال - من غير سلسلة من خط الجدود، كانوا ينطلقون أفواجا و أفواجا من خطوط النار في قلب الجزيرة، و من خطوط الغبار، ليكون لهم التحام بكل الأرض المفتوحة أمامهم علي عرض الشمال امتدادا من شاطي ء المتوسط، علي طول السهول المكفوفة بالجدار العالي المنتصب بامانوس، و زغروس و البختياري، انصبابا - مع دجلة و فرات - في الخليج المشترك، بشاطئيه العربي و الفارسي... ها هي الأرض التي كانت تتقبل الأفواج العربية المصفوفة علي طول الجنوب - إنها الأرض اللبنانية - الفلسطينية - الأردنية - الشامية - العراقية المجموعة باسم الهلال الخصيب. لقد عين الخصب الاسم و كتبه أيضا - بحرف من حروف الأبجدية الفينيقية الكنعانية، و هم فوج من الأفواج المنتقلة و النازلة في الأرض، و المنصهرة فيها. و المشتركة مع الراسخين من أبنائها المنتجين في ذلك الوقت - علما، و فلسفة، و حضارة، و الذين كان منهم غواصون في كنه الوجود، و في الاقرار بخالق في يده وحدة الكون، و نهاية المآل، إن ما جاء في التوراة، و في المسيحية الحديثة مصداق لما فاضت به الفلسفة في الأرض السورية - الآكادية - السومرية، و هي التي اخلتط فيها: البابليون و الآشوريون و الأموريون و الآراميون و الكنعانيون الفينيقيون، ما عدا هؤلاء السابقين الذين لم يلمحهم التاريخ.



[ صفحه 40]



و كذلك وصل فيض هذه الفلسفة العريقة، فاصاب منه كل الجوار القريب و البعيد: أكان من الفرس و هم كتف شرقي ملصوق بكتف غربي، أم كان في غربي البحر البارز بجزيرة قبرص التي انتقل منها الغيث إلي من هم المسمون بالأغارقة اليونان و من أقاربهم رعيل الرومان، بحيث علمتهم جميعهم - قبرص - بري المجذاف و شد السفينة... أم كان في المقلب الآخر الساجد بفراعنته تحت اقدام النيل - إله مصر - و قد حررته من طميه هندسة نشأت في أرض ما بين النهرين تخلصت بها الأرض من طمي دجلة و الفرات.

لم تغب الفلسفة تلك عن استيعاب الأمين محمد، و هي فلسفة قد اشترك فيها كل أجداده هؤلاء و انغمروا بعبابها و هي التي حفرت في يقينه حفرها السليم، و نزلت ذكرا استشهاديا في حروف رسالته، و لم يقتنع الا بمؤداها التوحيدي المؤمن بإله قادر رحيم جبار...

ولكنه - في النتيجة الملموحة - راح الي رسالته يكيفها و يشبعها بكل ما يلائم انسان بيئته بنت أرض الجزيرة المشوية بالجفاف - إن الانصباب هذا علي توجيه الرسالة و تلقيحها بالملائمات هو الذي ميز غوصه، و ميز عمقه، و عين مداه، مع العلم أن هذا التلقيح المقسط، لم يخرج الرسالة عن جوهرها التوحيدي - الإنساني- الأصيل -، بل شدها بجاذبية عالمية مفتوحة، لمت الوسيع من مجتمعات الأرض الي الحضن الاسلامي الرحيم.

لقد كانت الحاجة ملحة في الجزيرة الي كتاب يلملم قبائلها بين حروفه، فإنسان الجزيرة كانت تطارده الفوضي فوق فسحات الرمال: فهو عداء لا يستقر به شبع. و لا يستريح عليه نظام. من هناك كان له نزوح يكشفه التجوال، و يفرضه الترحال... أما الأمين محمد، فهو الغواص الململم الانسان الي كينونة أخري تلحمه بذاته - و من ثم - بوعي القيمة



[ صفحه 41]



الإنسانية فيه، ليتمكن من الجلوس الي مائدة يبسط عليها طعامه و شرابه... من هنا ان الغواص قد تمكن منه عمق الغوص، فجمع الكتاب و وفي الرسالة، و انضوي الي الأفق الغائر فيه: رسولا و نبيا!!!.

لم يكن لنا من هذه البسطة الموجزة الا محاولة تبيانية عن مدي تعب طويل رهن الرسول الكريم جهد العمر من أجل تحقيقة لرفع قيمة الانسان في الجزيرة، فيكون له مجتمع صالح، و أمة ملمومة بالحق و الهدي.

لقد رأي النبي العظيم أن تعبه قد أثمر. و إن الرسالة التي تثبت بها الكتاب قد حركت الوعي النائم في الغفلة المشلولة، و ها هو المجتمع يفيق الي حقيقته المفروضة في الوجود. و لن يلزمه الا عقود من السنين معدودة، يتمرس فيها - بالتدرج - علي حقيقة الوعي، و حقيقة السير، و حقيقة جلوة العين من رمدها المزمن!.

لقد أصبح تخليص الأمة من كل ما كان يضنيها من معوقات، همه الكبير، حتي لا يهرق التعب من دون أن تستفيد الرمال من الدم المهراق.

لقد كان يتمني الرسول أن يعيش أكثر من مئة سنة حتي تتم بين يديه حلقات التدرج في تمتين الوعي و تنظيم البلوغ... ولكن الأشواق لا ترويها الأحلام، و لا يشبعها فرط التمني... و هذا ما كان يلج علي الرسول بأن يأخذ الحيطة و يبني بها جدار وقاية لرسالة يجب أن تصان حتي تستمر - هي - بالصيانة.

ان الأمة بالذات قد أنجبت عبر تخطيها غياهب القرون و دهاليز الحقب، رجلا منها، مصمدا من مساحتها، و من مسافاتها المسحوبة من مشقات الدروب: انه ثمالة الكأس التي شربتها، و انه قبضة الرماد الناتجة من حريق أوصالها فوق المحطات التي بلغتها في مشيها الحافي، و انه الجذوة النابتة من حريق كل عواسجها التي اقتلعتها من حقول التجارب!!!.



[ صفحه 42]



ان الأمة بالذات - يناجي نفسه الرسول الهلوع علي أمة ستعود إلي خيباتها إن لم تعالجها الرسالة قاطعة بها الليل الطويل - هي التي تستحثه الآن في تعجيل تمتين الحيطة، بانشاء جدار حريز، يؤمن لها الصيانة القائمة علي حفظ الرسالة في اسطواناتها المقدسة، و يجهزها بصف منيع من الحراس الأولياء، يعززهم العلم، و الفهم، و الرشد، و السياسة الممرنة و المتمرسة بالعفاف.

لم يجد الرسول الكريم. و النبي العظيم، و الغواص الغارق في لهاث الجهد، و الحريص علي أمة شتتها الضيم فوق مساحات الحريق قبائل قبائل، تستمطر سرابا و تشرب دمع السراب!!!.

أجل، لم يجد الرسول اليقظان في هلعه، الا تنظيما يطال الغد الكبير زارعا فيه نتاج اليوم القصير المحتاج الي مران أصيل و مراس طويل - و سياسة حكيمة تصون الرسالة، و تصون الأمة، و توثق الغد بصدق الذمام ... ان الإمامة هي هذا التنظيم و هي زنار الأمان.



[ صفحه 43]