بازگشت

الخط العريض


ليس اللقب الكبير تقمط به الوليد الجديد و هو في حضن أمه فاطمة، غير غزل من مغازل النجوي المدقوقة علي مكوك الخط العريض. و الخط العريض هو ذاته الزنار الذي سلخ الرسول العظيم خمسا و عشرين سنة من عمره اختلاء عميقا في عب غار، من أجل أن يغزله عريضا و متينا، يزنر به خصر الأمة، فيشتد حقواها و تمشي منيعة بانسانها السوي، فوق الدروب. و ليس الخط العريض غير الرسالة بالذات ملفوفة بنعمة ربها للهداية، و مكفوفة بزنار عفيف للوقاية و الدراية، حتي تعبر خطوط المزالق الي وصول منزه و سليم.

في الاختلاء المنزه تقبل النبي العظيم هبوط الرسالة. و قبل أن يخوض دروب التبليغ و مشقاتها الجسيمة، كانت له خلوات جانبية تحصل في زوايا بيته المطهر، علي وشوشات يغمرها ظلام الليل ، و مهابات السكينة، و همسات التأمل... من يمكنه أن يفترض أن مثل هذه الاختلاءات الطويلة، لم تكن تحصل بين رجلين تجمعها و اشجتان: واحدة من عقل و روح و أدب، و أخري من هم واحد و وثاقة في الحسب؟ ينام في صدر الرجل الأول و خلف عينيه لغز لا بد منه من أن يتفجر و يتفسر، و تنام في بال الرجل الثاني روعة اللغز، علي مخافة أن تهرق الروعة (ان اللغز لم يتفجر و يتفسر.



[ صفحه 44]



من هنا أن الرسول الكريم ما وسع عباءته الا ليضم الي جنبه رفيقا له كأنه فلقة منه... سيكون لهما فراش واحد ينامان فيه إذا أعوت عليهما ريح من زمهرير... سيختلي به لتقويم كل خطوة قبل أن يتعثر بها الدرب الطويل... سيفجر به و معه لغزا تنام فيه رسالة تحضن الأمة و ترفعها الي سماء... سيزوجه من ابنته فاطمة، و هي فلذة من كبده، حتي يكون له - منهما - ذرية تثقف الأمة بالرسالة، و تحفظها الي يوم بعيد.

ليست قليلة اختلاءات الرجلين العظمين، و هما: النبي العظيم و علي العظيم الآخر، و هي ليست المفترضة، بل المؤكدة الحصول، لأن الارتباطات الواقعية، و كل الأحداث المصيرية التي حصلت، و يمكن حصولها علي الأرض - تشير الي أن الخلوات تلك ما كانت تتم الا للتدارس في الأمور الكبيرة، و اتخاذ القررات الحازمة، في سبيل جعلها تسير في خدمة الخط الذي هو - الي حد عريض - خط الرسالة - ان الرسالة بالذات، و النبي الكريم هو المدعو الي تمزيق الغلف عنها، لم يكن له أن يقوم بخطوة واحدة في سبيل نقلها الي الأذهان، الا بعد اختلاء طويل بمن يثق به، يتم فيه الدرس و التخطيط، و اتخاذ القرارات. فلنسأل واقعة بدر، أو واقعة أحد، أو واقعة خيبر أو تلك المشهورة بواقعة الأحزاب... أية واقعة منها لم تدرس في خلوة، و لم يمش اليها بقرار؟.

بديهي أن لا نلجأ الي ما يثبت لنا أن عليا كان في كل حين من الأحيان، نعم الرفيق، نعم الأمين، و نعم الوفي، و نعم المستشار... ولكن القول هنا ليس لاثبات الإمام علي بأنه فارس المضمار، بل يتجه القصد الي النبي العظيم بالذات، بأنه لم يكن ليتناول أي بند من بنود قضاياه الملمة بشؤون الحياة و مراميها القصية، الا بعد أن يشمل هذا البند بالدرس و التمحيص في خلواته مع نفسه و مع الأخص من مستشاريه، ليتم - علي مهل - اتخاذ قرار الدفاع عنه بالكيفية المطلوبة، فاذا كان له هذا التصرف ازاء أية واحدة من آيات كتابه المأخوذة علي انفراد. فكيف يكون



[ صفحه 45]



شأنه في توضيب التصرف الملي ء الاحتراز، عندما يتخوف من أفواج المقتحمين علي تشويه كل الكتاب بما فيه من سور قبب، و بما فيه من حروف آيات؟... انه الكتاب... انها الرسالة... انها مجتني العمر علي مدي الدهور، و مدي الحقب... انها لمامة شمل الأمة، و انها زنارها الواقي من الانفراط.

لقد كانت الأمة - في حساب النبي العظيم - مهبط آماله، و هالة أحلامه - و ما كان له أن يرجو اثابة من ربه إذا تثبطت به الهمة عن كفكفة الأمة بأفياء الرسالة، لتكون هديا لأمم الأرض، و مثالا لكل واحدة منها: في الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، فاذا تعثر بها الفهم و غابت عن مراميها، فما أتعسها - أمة - تخيب بها حروف الآيات، و تضيق عليها فتحات السور، ليكون - هو النبي - كئيبا كئيبا ستثقل عليه بلاطة الرمس، بينما تشتاقه فساحت الجنان!!!.

كل ما في الأمر أن هذا كله كان واردا في تحسب الرسول، و لقد ازدادت وطأة التحسب في باله، عندما راح يشعر بأن الأجل يدنو منه و بين يديه محفة مسحوبة من عمق الظلال! و الأمة التي سيتركها - وحدها - و يغمض عينيه و يغيب؟! من غيره سيغمرها بعين فيها مثل هذا العطف، و فيها مثل هذا النصيب؟! صحيح أنه جهزها بالرسالة، و صحيح أيضا أنه لفلفها بالكتاب... ولكن الرسالة - و هي حشو الكتاب - ليست مطلقا: لا آيات و لا حروف آيات... انما هي في تفتيق كل آية من حروفها الصامتات و في تعويهما بالروح حتي تضج بها الحياة، و تلتحم بها الكلمات، و تنطق بها السمات... ان في كل حرف من حروف الآيات ظلا مسحوبا من غور، و غورا مشقوقا من فضاء!!!.

و اثر ما يهبط الرسول من وقوفه و يغيب! فمن هو الواقف بعده؟ يمشي بالأمة فوق الدروب، و هو يفسر لها المعاني النائمة بين حرف و حرف من حروف الآيات!!! و بعد أن يصمت الرسول؟ من يخلص الكلمة



[ صفحه 46]



من صقيع الموت، غير العارف - مثله - أن الحرارة هاجعة في الكلمة، و لن يكون لها سريان الا بعملية من وصل حرف بحرف، فينتفي الهذيان و تنتشي السور... أليست - هكذا - بزغة الضوء انبجاسا، اذ يلمس السلب و جنة الايجاب؟.

و الأمة - في ظن الرسول - لن ينهض بها رجاء، لا اليوم و لا في أي غد آت، ما لم ينورها العلم و الفهم الموسع... و عندئذ، فالكتاب، بكل ما بين دفتيه، هولها في مدارج الادراك، ينقلها - حثيثا - الي استطلاعات أخري، يخف عنها مضيض الجهل، و يقوي فيها و ميض العرفان... و للعرفان الذائب في حقيقة المعرفة و حقيقة الوجدان، معونات و معونات، تشفع بالانسان إلي سمو في السلوك، و الي شبع في المزايا، و كلها تبني الأمة و ترجحها في كفة الميزان. و العلم؟ من ينقله و يوسع أدراجه إلا الباحثون و المنقبون الفاهمون؟ ان فيه - وحده - الإلمام بكل شأن من شؤون الحياة، و علي الأمة أن تنهل منه، و بقدر ما تنهل يبهو بها التحصيل.

و الأمة - بالتفصيل - بحاجة إلي العلم يعلمها أن تزرع و أن تحصد،... و أن تبني اهراءات تخزن فيها - ليوم القحط - ما تحصد.

و هي بحاجة اليه يعلمها أن تقرأ، و ان تكتب، و أن تفهم ما تقرأ و ما تكتب. و هي بحاجة اليه يعلمها الفصل بين الحق و الباطل، فلا تأكل رغيفها الا عن صينية الأول، و تنبذه عن صينية الثاني، لأن الحق تأكله فتصفو عينها، أما الرغيف الآخر فسم يهري ء الأحشاء!.

و هي بحاجة الي علم يعلمها كيف تمشي علي الموج فلا تغرق، و علي اللفح فلا تحرق، لأن في الموج زبدا يعدله المجذاف، و في اللفح حزاما يلطفه اليقين. و هي بحاجة الي علم يعلمها جمع الخيط من نسالته، ثم غزله، ثم



[ صفحه 47]



نسجه علي مكوك تبرع في بري عوده، فيكون لها - من جهد يدها - عباءتان: واحدة تلبسها في يوم الهجير، و ثانية في يوم الزمهرير.

و هي بحاجة الي علم يعلمها كيف تحصي خطواتها فوق الدروب، و عبر البحار و عبر الرمال، و عبر المجاهل و الحدود... لأن في ذلك كله هندسة ترتب لها شد نعالها نحو الأقاصي، و ترسم بها جغرافية الأرض و مناخاتها، حتي تعرف متي تذهب، و كيف تجول، و متي تؤوب - و تعلمها علي المدي الطويل: كيف ترقق المجذاف، و كيف تنجد السفينة...

أما الأرقام فسيكون لها - تحت عينيها - رصف علي اللوح يرقص به علم الحساب... أما الفلسفة، و الفقه، و ميسرات التفسير، و تفتيق الألغاز النائمة بين الحروف، فإن المنطق - وحده - يعلمها الخشوع لكل آية من آياته البينات.

و هي بحاجة - بشكل مطلق - الي علم يعلمها كيف تطبب أجسامها فلا تنهشها الأدواء، و عقولها فلا تشعثها الترهات، و أن توسع مداركها بعلوم الفيزياء، و معادلات الكيمياء، ليكون لها شبه اطلاع علي ما يحصل حولها في خضم الوجود، من تفاعلات يأخذ بعضها بركاب بعض، كأنها من نهاية تحصل و الي بداية تعود، مع أنها تبدو مزيجا من نهايات و بدايات لا حدود لها غير السرمد.

ان علوم الكيمياء بمعادلاتها التي لا تحصي، تفسر اتحاد العناصر بعضها ببعضها الآخر، علي مقادير معينة الأحجام و الأوزان، تعجنها الأرض بأمواه السحاب، و تشويها الشمس بدفقات أخري من نار و ضياء... و هكذا يبدو الوجود كله في سلسلة سرمدية من معادلات، ليس لها أم باثداء غير الكيمياء، و ليس للوجود - بشكل مطلق، بكل ما فيه من عناصر تتماوج و تتخارج بها المعادلات - الا تأمل خاشع أمام القوة العظيمة و المقدسة، و الممسكة بكل هذه العناصر، تملأ بها مدارج اللامنتهي في



[ صفحه 48]



هذا الوجود... و ان الله - وحده - هو مصدر العلم المجرد، تمسح به الأمة عينيها حتي تستنير.

هكذا نري أن كل ما تحتاجه الأمة لبقائها و اطراد نموها قد جعله النبي الكريم هما من همومه الدائمة، و أحاطه بعناية مدروسة، تنال منها الأمة - لا في يومها الحاضر و حسب - بل في كل يوم من أيامها الطويلة التي يجهزها لها الغد. ان الاختلاءات المعمقة بالدرس، مع الذات، و مع علي شقيق الروح و رفيق العمر، كان لها رصيد مميز بالتحسب، و الاحاطة، و بعد الرؤية، و صوابية العرض.

لقد رأي النبي الكريم أن الأمة التي جمعها بجهده و سهره، سيضنيها الانفراط ان لم يتعهدها الفهم، و العلم، و السياسة الصادقة و الحكيمة، و كلها مدارج مدارج، لا يأخذ منها الا الذكاء، و المران، و التمرس الفاعل.

الفهم نتاج العلم الصحيح، و العلم أوسع من المحيطات، و هو لا يستوعب الا نذرا فنذرا مع المدي الطويل الذي يبدو أنه لا ينتهي، و الأمة التي يليق بها عز الخلود، فلتوسع له حلقات المدارس، و لتملأ موائدها من ثراء حقوله، سيكون لها - بعد كل قرن من قرون السنين - ما يدل اليها بأنها صادقة في تلمساتها، و أنها حية في تعهداتها، و أنها بالحق و النبل تستعين و تستقيم.

أما السياسة الصادقة و الحكيمة، فهي المتجردة من حقيقة الفهم المؤمن بأن الحياة هي الخير المروي بالجمال، و بأن السائس هو العفيف الذي لا طمع فيه، و لا بخل، و لا جشع، و لا ظلم، و لا عيب، و لا نكد و هو الانسان الصحيح المميز بالخلق المغلف بنعمة الخالق... ان السياسة تلك هي افراز الحق المكثف في رجل يمثل رأس الدولة في رعاية الأمة، و السير بها في سبيل المراقي: بعدل، و مساواة، و حق، و نظافة،



[ صفحه 49]



و استقامة... ان المران الطويل، و التمرس المصحح برفقة خلف لمخلوف صادق في عهدة الإدارة، يضمنان وصول جدارة القيادة من رجل إلي رجل عن طريق تسلسل الخلافة التي تكون صدقا موصولا بصدق... و ها هي الأمة - و الحالة تلك - ترتدي في كل مرة عباءة جديدة من دون أن تشعر أنها غيرت زيها، و هي تمشي علي ذات الطريق.

و تم الرأي في الاختلاء الرزين علي تعهد الأمة تعهدا مركزا علي اثني عشر اماما، يكون ركنهم الخليفة الأول، و هو الإمام علي متمرسا تمرسا كاملا بالمخلوف الذي لا يزال يرعي الأمة.



[ صفحه 50]