بازگشت

الامامة


لقد اكتسبت الامامة مع الوقت معاني كثيرة لا شأن لنا الا بواحد منها و هو الخلافة - أما المخلوف فهو النبي لكريم بعد أن تحمله السحب الي الرفيق الأعلي، تاركا للأمة رسالة طرية العود، ستكون - من دون شك محتاجة الي مدربين يتعدونها بالرعاية حتي يمتن عضلها، و تتوضح مقاييسها، و تنجلي معالمها الناهدة بها من الأغوار.

ان في البحث السابق تلميحا مقصودا عن أهمية الرسالة و عن كيفية انبثاقها من جهد الأمة و من ثقل معاناتها في الحياة، عبر المديد من الحقب... و ها هو الذي تجمعت إليه هذه المجاهيد يدرك أن الرسالة انبثقت من واقع الأمة الراهن، و من حاجتها الضاغطة الي لم شعثها من انفراط قبائلها، و توحيدها في جدلة واحدة تنهض بها الي الصف الاجتماعي المنظم.

لقد أصبح لنا شبه اطلاع من اشارات البحوث الواردة في مضامين ما مر بنا حتي الآن - علي أن الرسول الكريم هو الطاقة الفاعلة و المستمرة في تجهيز الجزيرة بكل مقوماتها الحياتية و الفكرية و الروحية علي السواء. لقد قبلت - بعد جهد مضن و مرير - ما قدمه لها اليوم، و ها هي تظهر به - في الساحة المحترمة - أمة ملمومة علي ذاتها: دينها التوحيد في ظل رسالة هي



[ صفحه 51]



جوهر التوحيد، و عليه أن يجهز لها ما يجب أن تقبله في الغد، من مقومات ضابطة، تحفظ بها كينونتها الجديدة، و استمراريتها النامية بالتنظيم العاقل الواقي من ردة عقيمة تردها الي الأمس الذي كان شاردا بها من غيهب الي غيهب!.

لم يغب زعماء سياسة الأمس عن عينه المبصرة، فإنهم هم ذواتهم لا يزالون بين يديه يختالون فوق الساحات المذنبة بغرورهم الأصفر، أنه يلمحهم يقرأون الحروف، ولكن الرمد في عيونهم هو الذي يقرأ، و هل تصح قراءة بيضاء بعين يقرحها رمد؟!.

و هكذا الأمة كلها المدعوة الي أن تقرأ: لقد تحرك الشوق الكامن فيها، و دفعها الي أن تقرأ. ولكن الجهل الهاجع فيها - من مخلفات ساسة الأمس - لا يوضح لها ما تقرأ.

نذر قليل من فهم ما قرأته الأمة في الكتاب فعل في الأمة فعله العجيب، فكيف يكون الشأن لو ازداد هذا النذر من الفهم الي ضعفين، أو الي عشرة، أو الي مئة من الأضعاف؟ ان للأمة - في نسبة مثل هذا المقدار من التفهم - مقادير أخري كثيرة البهاء، تجعلها في مكانة جلي من القوة و الصفاء... انه حلم النبي في دفع الأمة - بالرسالة - إلي هداية أمم الأرض وزفها الي الجنان.

لن يهدأ في الرسول جهد مكدود و مقدود من عزمه و بعد نظره، ولن تحرم الأمة من وسيع يومه و مديد غده، فالعدة التي حضرها ستجعل اليوم فتيلة الغد، و الغد زجاجة المصباح، تغرف منه الأمة نورها الوضاء.

كل شي ء جاهز في التحسب الرزين، فالإمامة التي كل معناها - خلافة - هي في أمتن ما تكون، فعلي - وحده - أساس المحراب، و هو - وحده - سقفه و سناده، و بهاؤه... انه الإمام الخليفة، إذ تحمل السحب المخلوف إلي السقوف العلية، تاركة للأرض من ينور لها الممرات،



[ صفحه 52]



و من يفتح لها الكتاب و يعلمها فتح الكتاب.

سيكون من علي نسل من القراء الخلفاء، و سيكون الأبناء عديدين في التدرج المبارك، و سينتخب منهم الأنسب للتخريج - اماما عن امام - في خلافة تصل الفرع بالأصل، فارضة علي كل ولي منهم تلبية حاجة الأمة، و كيفية ابتكار سدها بأي نوع من الممكنات، و هكذا فان الأمة ستناديهم الي حاجاتها فيلبون لها الحاجات... سيلبونها - كل بدوره - في بقر العلم إذا انكسف منه عنهم شعاع - سيبلونها بوصلة الخيط إذا انقطع الخيط من غزل قميص تلبسه في العراء، سيبلونها بازالة الضيم إذا ارتجفت بالظلم أنملة القضاء... و سيلبونها كلما اتجهت اليهم برجاء فلا يسكت واحد منهم عن تلبية الرجاء.

إنهم اثنا عشر في الخط المرصوص في تواصل الخيط، حتي إذا انتهي بهم الخط، تكون الأمة قد اكتفت في تدرجها و احتاطت بالتأمل و التكامل المليئين من نور الرسالة، و هي كلها - عندئذ - خليفة الرسول العظيم، و راسخة في الرسالة: ثقافة، و حضارة، و نورا، و إيمانا... إنها الأمة التي كان يحلم بها النبي العطوف، لتكون في الأرض جنته المثيلة بالجنان الزاهيات.

ولكن الرسول العليم، كان يرسم هلعه الكبير علي أمة لم يتمكن - هو بالذات - من ترميم كل ثلمة فيها، فاكتفي بالنهج أن رسمه علي اللوح، و نفذه بمن فهموه و لبوه، ليبقي حاضرا في الذهن: بأن الأمة إذ ما تستوعب الرسالة بكاملها، و تطبق نهجه بحذافيره، تصل - من دون ريب - إلي نظافة مثلي تحضرها لأن تكون وسيعة المعاهد و النوادي، و نادرة المحاكم و السجون.

ان الأمة الآن تصغي إلي صوت جابر بن عبدالله الأنصاري يبلغ الفتي



[ صفحه 53]



اليافع محمدا و هو الشبيه بجده الرسول، بأنه مدعو إلي تلبية حاجة الأمة في يثرب، مدينة الأنصار، و هي المحرومة من العلم، حتي يتأهب و يوسع الأبواب لمعهد يمد الطلاب فيه بمعلومات عن علم الحساب، و الفلسفة، و التفسير، و الجغرافيا، و الطب، و الكيمياء... ألا نراه سيلبي عندما يتطلب منه أن يلبي؟!.



[ صفحه 54]