بازگشت

الأمة


انه هو - بحثنا السابق و عنوانه «الإمامة» - يسوقنا الآن إلي بحث آخر بعنوان «الأمة»: هنالك كلمات أربع، يشتق بعضها من بعض، بمعناها و مبناها، و جميعها يكتسب معني الحضانة، فالإمامة، و الأم، و الإمامة، و الأمومة، يجمعها إلي بعضها توضيب واحد من العطف، و الحنو، و الالتزام، و يفصلها عن بعضها حجم متفاوت المؤديات: فالأم تحضن عدة أبناء يحرضها عليهم عطف الأمومة، - و الامامة أم أخري دافئة الأضلاع، تحتاط بعدة أولياء يحترقون بلهيب رسالة - أما الأمة فهي كنه الأمومة، و مجموعة الأرحام في مجتمع انساني نما في جغرافية من جغرافيات الأرض تضبط كل واحدة منها حدود أرضية (صخرية، أو صحرواية، أو مائية بحرية.) أو انفتاحات تمتد بها و تطول، ولكنها توصلها - في النتيجة - إلي تخوم تنكفي ء بها الي ذاتها في العمل و التفاعل و تنظيم الاكتفاء.

لكل مجتمع من هذه المجتمعات البشرية عادات و أنماط بيئوية مسحوبة من مناخات أرضه، لتبقي مكرورة و مسطورة في التقاليد المنحفرة في سليقة أبنائه و سجاياهم، منذ آلاف السنين، و قد يستمر هذا الحفر في النفوس الي ألوف أخري من الأمداء، من دون أن ينفعل أي مدي منها بأي تطوير أو أي تحوير...

لا يقصد البحث احاطة تامة بتحديد الأمة تحديدا عليما و موثقا



[ صفحه 55]



بماهياتها المرتبطه بالحياة، و بكل ما يتعلق بعلم الاقتصاد، و علم الجغرافيا، و علم الاجتماع، ان لذلك اختصاصات مطولة، سيشير اليها امامنا الباقر عندما يشرع أبواب جامعته في يثرب. فيشرق علم، و يشرق صواب.

يكفينا من التحديد ايجاز يشير الي أن الأمة كائن حي، و هي ضرورة حتمية لنشأة الانسان، أما قيمة انسانها فانها تتوفر غالبا من نسبة ما تتنشط به الأمة من فاعليات متحركة منها، تكون مددا و ذخرا لهذا الانسان، تدفعه لتحقيق معين، يجهز به أحلامه و أمنياته، أو فلنقل: طموحاته التي تكبر بالجهد و المثابرة. سيكون العلم - وحده اذ يتيسر - نواة الجهد في لولب المثابرة، لا الحظ المقرظ، و لا الجهل النائم في عين ضب!!.

ها هي الأمة المتربعة فوق مساحاتها الطويلة و العريضة، تتطابق عليها المواصفات الواردة في متن هذا البحث: انها الجزيرة العربية، و قد أنجبت فتاها العظيم المؤمن بها طاقة فاعلة في حيز وجوده، و بأنها هي التي انتجبته من صميم ضلوعها و من صميم معاناتها الطويلة في ردهات الزمان، و من حاجاتها الملحة الي كل تطوير و تحوير يوجه انسانها توجيها آخر يحرره من صباغاته المزمنة، و من عاداته و تقاليده المترسبة فيه من قبلية جاهلية أنتجتها المساحات السائبة بين الحرات و الأحقاف و الرمول السائلة في وهج الدهناء و ربعها الخالي، ليكون له - من و احاته - قسط مندي، يربطه بحقيقة الانتاج الانساني الموجه بالعلم و الرشد و الفهم الحي.

لقد أدرك النبي الغائص في لجج التأمل و عباب الوحي، أن الأمة الملقوطة بصمت يابس، هي أمته بالذات، و هي الخارج منها و المنتسب اليها، و هي له في الذخر و في الشح، فاذا كان لها أن تقبله فهو الحي بها و الجائل بها فوق المساحات، أو إذا كان له منها ذلك العكس الحزين، فهو المهدور الي زوايا الأمس، و رسالته هي الخائبة المشلولة في العتمات!!!.



[ صفحه 56]



و انصب النبي الشبعان من نعم الغوص، ينجي أمته من الاستغراق في عتمة الريب، مقدما لها حروفا تؤلف منها كلمة الحق تمشي بها إلي رصف الذات في مجتمع سيقرأ اسمه مكتوبا علي اللوح.

و لبته الأمة - كما سبق و قلنا - و ان تلبية كثيرة الاجتزاء، و راح يتنقل بها عبر الانفتاحات ذاتها التي كانت تعبرها في كل ماضيها السحيق، حاملا أمامها رسالة تسهل العبور: لا الي الجوار المألوف و حسب، بل الي أمم أخري، غريبة اللغات، و بعيدة الحدود، و قد استهوتها الرسالة بما فيها من حب و مساواة و مؤاخاة، و من ايمان بالله ينشر الطمأنينة في الروح، و يبلسم النفس بالرجاء و العزاء... ان في الرسالات السماوية جاذبيات مشتركة، تجعل أكثر من أمة واحدة تدين بها و بها ترتل صلواتها.

كان التطرق الي هذا الموضوع من أجل الاشارة الي أن ايمان النبي العظيم كان بليغا بالأمة التي هي أمته في الجزيرة العربية، و أن حبه و اخلاصه لها هما المفروضان في التحتيم، و أن الرسالة و الامامة هما لها في التنزيل و التنظيم، أما العلم فهو الذي يترقبها تحتازه فينجيها من جهل يشل نهضات الأمم. ان الامامة المنظمة شددت علي العلم يبتدي ء بتفجيره امام يشعر بأنه حاجة مستمرة لنجاح الأمة و الرسالة اللتين تركهما الجد الكبير و الغيور، في بال كل امام يلتهب بالرسالة و بحب الأمة التي هي أمة محمد.



[ صفحه 57]