بازگشت

حزن كربلاء


في ليلة ظلماء انسحب آل البيت من يثرب نحو محارم الكعبة في مكة المكرمة. لقد ضاق الإمام الحسين ذرعا من الوليد بن عتبة و الي مدينة يثرب، يأتيه كل يوم بعد يوم، طالبا اليه مبايعة بالخلافة ليزيد بن معاوية.

ان تواتر الأخبار يرجح أن الوليد بن عتبة - و ان يكن حربيا من بني سفيان - كان يعطف علي الحسين، و يحاول أن ينجيه من أية أذية يهدده بها يزيد، ان لم يسارع الي مبايعته بالخلافة.

لقد كان الحسين مدركا فداحة الورطة، لهذا راح يماطل الوالي بوعد حائر بين الرفض و القبول حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا، و أما الداهية مروان بن الحكم - و قد اكتشف ما يجول من ضعف في عزيمة الوالي - فانه بادر الي تنبيهه بأن سرعة التنفيذ لا تنجي عنق الحسين من القطع، أكثر مما تنجي الوالي من الإقالة... لم يغب دهاء مروان عن فطنة الحسين، فحزم أهل بيته في هذه الليلة الصامتة، و انسحب الي مكة، ففي محارم الكعبة متسع من الوقت للتبصر و التدبر.

جل ما حصل بعد الانسلال من يثرب:

عزل الوليد بن عتبة من الولاية. تعيين مروان بن الحكم واليا مكانه. نجاة الحسين من ضغوط المبايعة، و حصوله علي وقت يتخذ فيه حقيقة القرار.



[ صفحه 66]



أما الحاشية في سري الليل، فكان نجمها طفل تجاوز قليلا الثلاث سنوات، و كان يأبي أن ينام الا في حضن جده الذي راح يعلمه رصد النجوم!.

و حزن كربلاء؟ انه الحزن الكبير تحيي به الأجيال - في كل سنة - عاشوراءها بتطييب ذكري الحسين، أما كربلاء فهي الأرض التي اختيرت لامتصاص دم الشهيد.

لقد تراءي لي أن هذا الحزن قد ابتدأ يمشي خطواته البليغة مذ انسل الحسين من يثرب الي مكة، ثم من مكة الي كربلاء - أما الذين تلبسوا وطأة الحزن العريض و أودعوه الأجيال لتخليد ذكراه، فانهم علي بن الحسين، و قد انتقلت اليه الامامة، و معه لفيف آل البيت، لا سيما الفتي محمد الباقر، و قد بدأت ترتسم في باله كل خطوط المجالات البعيدة و التي تشير الي أن أسباب حصول مثل هذا الحزن المرير ليست صدفة كربلائية بصورة الحصر، انما هي نتيجة كمون ترسبي في ذهنيه الجزيرة التي اختطفت الرسالة من صدر نبيها. و سدت آذانها توا عن التعهدات المقدسة لحمايتها و استمراريتها فاعلة!.

لقد أكمل الإمام ابن الحسين مسيرة أبيه المتلزمة، من كربلاء المصبوغة بالدم، الي شام يزيد الذي فجر وريد من اقتبل الامامة، و لم يرض عمن يزور الخلافة!!! و لقد كتب عليه أيضا أن يرجع من الشام الي الكوفة، و حزينا حزينا من واقصة، عبر كل محطات الصحراء المشوية بالشمس، الي يثرب، حيث اكتملت امامته الساجدة، و اتصفت بزين العابدين.

أحببت أن أسمي الخط الذي انطلق من يثرب و العائد الي يثرب، بالخط الجغرافي، و بدا لي أن أرسمه رسمة جغرافية وبدون مقياس، تسهيلا لتصوره و الاطلاع عليه... سيكون للامام الباقر - بعد ما يقارب



[ صفحه 67]



الأربعين سنة - أن يتولي الامامة و الجامعة اللتين سكب فيهما جهده أبوه الإمام زين العابدين، و أن يوسع المناهل و المسالك في علوم الفيزياء، و الكيمياء، و الفلسفة، و أن يقرنها كلها - بنوع خاص - بخرائط الجغرافيا، و بمساطر ضبط المساحات و المسافات، و تنزيلها في الواقع الحي.

ان الخريطة التالية هي تصميم الخط الجغرافي الذي مشاه الحسين مع كل مرافقيه، بعد سنة بالتقريب من انسلاله من يثرب:

خريطة دب القوافل من يثرب، الي مكة، الي الكوفة، ثم رجوعا من الشام - عبر واقصة - الي يثرب:



[ صفحه 68]



ان المدة التي انعكف بها الحسين في محارم الكعبة لم تتعد السنة الا قليلا، علي ما أظن، ولكنها كانت بعيدة في جناها و مؤادها، لقد تبسطت له كل أمور الأمة، و كل شؤونها المادية و الروحية و المستقبلية علي السواء، ان الرسل الذين أوفدهم للاستطلاع و الاستكشاف قد بادروه كلهم بالرسائل و الافادات، و لم يترك - هو بدوره - رسالة واردة أو افادة وافدة، الا و وفاها بالدرس و التمحيص...

من اليمن انهالت عليه الرسائل، و من الكوفة و البصرة جاءه سيل منها يعد بالألوف، و من القبائل المشرورة فوق فسحات الحجاز دفقت عليه رسائل التأييد، و من الشام - حتي - تلملمت اليه رسائل تشكو الظلم السفياني و تلوح بالمناصرة:

و كشف الدرس الصحيح و التمحيص الموزون كل ما جاء في هذه الرسائل البالغة في عددها اثني عشر ألفا - علي ما قيل... فقط، مئات قليلة منهم يحملون سخاء الطبع و يجلون القضايا من شرعة الانسان - و مئات قليلة أخري يفضلون الطالبين، لأن منهم الرسول و الآخر عليا... و مئات قليلة تربط الرسالة بالامامة للتخلص من بني سفيان...

أما الكثرة الساحقة فان وعيا متفاوت الحجم و الوزن و القيمة يوزعهم فوق الرقاع، يفتشون عن عون و حماية و لا يجدونهما الا في ظل شيخ قرشي أو زعيم مجرب!!! أما الرسالة، أما الامامة، أما القضايا الكبيرة التي يتوسع بها العقل، و الفهم و الادراك في مجتمع الانسان، فكلها - كالحريات - تدوسها العبوديات باقدامها المفلطحة، ليبقي الانسان كما هو الكبش في القطيع: يكسر الراعي قرنه، ساعة يعطش الساطور الي لحسة من دمه!!!.

جل ما أدركه الحسين انتهي به الي اتخاذ القرار الصارم المبني علي مثل هذه الحيثيات التي راح يتغني بها في سره و في جهره و هو في محبسه



[ صفحه 69]



بين الرسائل المنثورة فوق الأرض، و الافادات المرزومة فوق طراريح المقاعد:

- ما جاء جدي الرسول الا من هذه الأمة... و من أجلها استنزل الوحي و صاغ الكتاب.

- و من أجل صيانة الرسالة في صيانة الأمة و الدفع بها الي الصعود، شد الامامة و جعلها - حصرا بالرسالة و بالأمة - أداة رعاية و أداة بلوغ.

- و لن يكون للرسالة شأن، و لا للأمة وصول، ما لم يكشف العلم جوهر الرسالة، و ما لم تستنر الأمة، بجوهر العلم.

- أولا و آخرا هو الانسان في حقيقة المجتمع، فليتعزز بكل ما يحرره من الجهل، و العي، و معاني العبوديات... العلم وحده يحقق الأمة الواعية و المجتمع المنيع، و يمحو الذل، و ينمي الكرامات من عنفوان الانسان، و يمتعه بالرشد الصافي، و يعين له لون الحريات.

- ان الصفات الكريمة، و كذلك، هي المزايا المحصنات، تبني الأمة، و تصون المجتمع، و تنشر كل ما في الرسالة من آيات بينات.

- يا لجدي محمد، يملي علي الآن كل عزم كان يطوف فوق فسحة جبينه و علي أرنبة أنفه...

- سأرفضك يا يزيد من خلافة تنجسها... أما الأمة فلتشهد أني أبذل دمي من أجلها حتي تتعلم: أن الجبن ذل، و أن القبول بالذل يبيد الأمم... و أن العنفوان هو ابن الكرامة و الاباء - و هو علم جليل باهر و هو الذي يحيي الأمم.

كان الحسين مغمض العينين عندما انتهي من ترنيم قراره، و لما فتحهما وجد أمامه في الباب: عليا ابنه واقفا في اطراقة صامتة، و حارس دارهم أسعد الهجري، مطرقا أيضا بصمته الخاشع، و ما بينهما الفتي



[ صفحه 70]



الصغير محمد، و عمره أربع سنين. آخذا بيمناه كف الهجري و بيسراه زند أبيه... الا أنه كان مشدوها يصغي، و كأنه فهم كل ما أصغي اليه.

تبسم الحسين و هو يستوعب الثلاثة المراقبين، و قبل أن يفتح ذراعيه كان الفتي محمد قد انضم اليه، وجده الحسين يسأل:

- هل فهمت كل ما سمعت يا ابن جدك الرسول؟.

و سريعا ما جال صدي صوته في جو المكان:.

- و هل يمكن أن لا أفهم نبرة يهمس بها جدي حسين؟.

غمر الحسين حفيده، و تبسمت في عينيه دمعتان هادئتان و هو يقول لابنه علي ثم لأسعد الهجري:

- تحضره يا علي، ألم تسمعني الآن أنقل اليك حوض الامامة؟! و أنت أيها الهجري المسكين السابح في قرارت نفسك، ارزم الحوائج و تأهب للسفر...

سنترك مكة ليلعب بها كيفما يريد و اليها عمرو بن سعيد بن العاص... و سنترك محارم الكعبة، ليكمل الرقص فيها - علي هواه - عبدالله بن الزبير... و عندما ينتهي الهزيع الأول من هذا الليل نغذ السير نحو الكوفة، حيث ينتظرنا طيف الإمام علي علي بوابة المحراب.

لم تكن الرحلة التي قام بها الحسين من مكة حتي الكوفة في العراق مجرد نزهة للترفيه عن النفس، انما هي - بحد ذاتها - مشقات مضنيات. تشويها الشمس بدفقات من سعير، و تمط بها المسافات من ليل ساهر بالنجوم، الي ليل لا يداعبه نسم... و تبقي المحطات علي طول الطريق، توفر للمسافرين بعض متعة، و نوعا آخر من راحة يستأنف بها نمط المسير.

ان التوقف مع الحسين في بعض المحطات الممدودة بين مكة و الكوفة ممتع بدوره، وفائق الأهمية، بنسبة ما يوضح لنا القصد من اقامة



[ صفحه 71]



الرحلة، و بنسبة ما حضرت الرحلة من انطباعات في نفس فتي عمره أربع سنين - يطوف في قسماته شبه بجده الرسول - ان شوقا نادرا و مبكرا كان يوسع فيه مجالات الفهم و الاستيعاب: ها هو، في الرحلة القاسية، لا يفارق جده الحسين، يصغي اليه و الي كل من يحاروه عند التوقف للاستراحة فوق محطات الطريق. لم يكن له - مثلا - أن يلم من الحوارات بأبعادها و مراميها الواسعات، الا أنها كانت تترك ظلا - في عينيه - له من وطأتها و فرة اللون.

(1)

في أول محطة بلغتها القافلة النازحة من مكة - قبل منتصف الليل - ألقي القوم رحالهم، مع نهوض الشمس... انها محطة «التنعيم». بلغ المحطة علي ظهر جمل أغبر واحد من بني أعمام الحسين - عبدالله بن جعفر ترجل و عانق الحسين و هو يلهث في لهفة القول.

- أستعطفك بالرجوع الي محارم الكعبة... ففي الكوفة تلقي مصرعك!!!.

و بسرعة لا تلهث أجابه الحسين:

- ان خمسين سنة مرت علينا بعد عمر بن خطاب قد صاغت قدري، فلا تلهث علي يا ابن العم!! رعاك الله من مشفق حبيب!!!.

كان الفتي الصغير بعيدا خطوتين عن صدر جده الحسين... سمع الحوار القصير ففرك أذنيه، و أغمض عينيه... و بعد أن فتحهما لم يجد الرجل اللاهث الا دامعا، يعتلي جمله و يرحل... و دنا من جده ليقول:

من هو عمر بن الخطاب يا جدي؟

يظهر أنني لن أحبه!!!.



[ صفحه 72]



(2)

في المحطة الثانية و تدعي «الصفاح» لحق بالقافلة عون و محمد ابنا عبدالله بن جعفر، و قد استحصلا من الوالي علي مكة - عمرو بن سعيد بن العاص - علي صك أمان للحسين يعود به آمنا الي مكة، قال عون:

- هذا هو صك الأمان يا عم.

رمق الحسين الصك بزاوية عينه، من دون أن يمد اليه يدا و قال:

- جدنا الرسول هو الذي قدم لنا و للأمة جمعاء صكوك الأمان! و لقد بدي ء بتمزيقها منذ العهد الأول علي يدي أبي بكر! أما هذا الذي في يدك يا عون، فليس صك أمان... بل هو صك ارتهان و امتهان!!!.

أليس لنا أن نرفض صكا كاذبا توارثه عن أبي بكر بنو حرب و والي مكة ابن العاص؟!!.

لاذ الرجلان بصمت حزين - دخل الحسين باب المخيم - لحق به الفتي الصغير، تلقط بعباءته و عينه تسأل - رمقه جده و احتضنه إلي صدره... بعد لحظات محسومات، دخل عون، و محمد - مزقا علي قدمي الحسين صك الأمان و سجدا لله تعالي بين يديه و هما يشهدان:

- نحن معك و لك أبد الدهر، نمزج دمنا بدمك في تقديم الشهادة.

(3)

و في المحطة الثالثة و تدعي «محطة ماء العرب» كان الحسين منهمكا مع رجاله بتعبئة القرب سدا لعطش الطريق، و اذ بالفتي الصغير يتقدم نحوهم مع رجل جاء يسلم علي الحسين. يبدو أن الحسين كان يعرفه منذ وقت طويل، و لما لمحه بادر اليه مرحبا:

- أرحب بعبدالله بن مطيع العدوي. لك من حسن الرأي و سداد



[ صفحه 73]



الحكمة ما يجعلني أصغي اليك.

و بادر ابن مطيع بالجواب:

- من أنا يا ابن بنت الرسول حتي تصغي الي؟.

- ولكني أجرؤ و أقول: لا تكمل الطريق...

لن يكون لك من محبة القوم، درع تقيك!!!.

لا الخوف، و لا الرعب، و لا الجهل يا سيدي ينشي ء بطلا يحميك!!!.

و بعد تأمل رهيب أجاب الحسين:

- انها أمة جدي يا ابن مطيع...

جئت أعلمها كيف ترفض ذلا يغذي فيها الخوف و الرعب و الجهل المميت!!!.

سأقرأ عليها فصلا من فصول الكتاب، يعزز في نفسها مجد العنفوان، فلا ترضي أبدا أن تسلم سيفا لمن ينحر فيها شمخة العنفوان!!!.

سمع الجواب ابن المطيع، و انحني يقبل الطفل، و قد رآه مبهورا بشفتي جده الحسين ثم انفتل راجعا يوجه الكلام نحو السيد:.

- يا للعظمة، تتخطي حدود الوجل... لتعيش - بكرا - في عين الزمان!!!.

(4)

و في هذه المحطة المدعوة «بطن العقبة» تمت مقابلة قصيرة بين الحسين و كان رابضا تحت بلاس الطيب، يعد البلاس كم فيه من خطوط مشدودة في انشائها ظلا فوق رأسه، يقيه من وطأة الشمس، و بين



[ صفحه 74]



رجل دخل الطنب، و هو يدعي أنه يعرف كم هو عدد الخيوط التي يشتد بها بلاس الطنب، و طفق يقول:

ابن لوذان - عندي نصيحة لك يا سيدي الحسين، ألا تسمعها؟.

الحسين - سأخذها من فم عمرو بن لوذان بن عكرمة - هاتها.

ابن لوذان - لا يبدو أن في خاصرة الجو غيمة تمطر، فهلا تعدل عن المجازفة!!!

و سريعا ما أجاب الحسين:

- ان المجازفة - يا ابن عكرمة - أن نعدل عن المجازفة!!

ان ارادة الله هي الفاعلة.

و هي التي تعصر الرمال.

و تفجر منها دفق الفرات!!!.

عصر ابن عكرمة عينيه، و ضغط أذنيه، و انسحب... بينما كان الفتي الصغير يرتمي في حضن جده و هو يقول:

- جدي... كيف يكون دفق الفرات؟.

(5)

و في المحطة المدعوة «العذيب» جاء الحسين وفد من وجهاء الناس، علي رأسهم الشاعر الكبير الطرماح بن عدي، ودار بينهم و بينه هذا الحوار:

- نحن أربعة آلاف، تقدر أن تضرب بهم ساعة تأمر.

رفع الحسين رأسه بشموخ و قال:

لا أطلب ارهاقكم بلا جدوي... لو أنكم تصوير واف لحجم الأمة،



[ صفحه 75]



لكانت اختفت منذ زمن بعيد هذه الذئاب من حول الحظيرة!!! اجمدوا الآن و ابقوا خميرة من الخمائر... ان غدا كبيرا سيأتي بعد أن أثبت رفضي!!!.

و بعد لأي و تأمل قال الطرماح:

- ألا تظن أن جبلي أجأ و سلمي. يا سيدي، يتمكنان من حمياتك في ساعة المحنة؟!.

و بشموخ آخر فيه كثير من كمد. قال الحسين:

- انه قلبك الكبير أيها الشاعر...

ولكن للأمة مطلبا آخر...

تشتري به حقيقتها مني... و لا تشتري سلامتي الصغيرة...

افهمني يا طرماح...

و رو شعرك من أطيب المناهل.

انسحب القوم و الحسين يشيعهم طويلا و باعتزاز... و لما رجع الي المخيم، و جد فتاة الصغير متربعا فوق الحصير، و هو غارق في التفكير... فسأله جده.

- بماذا تفكر؟

أجاب الفتي جده، من دون أن يرفع رأسه اليه:

بجبلي الطرماح... أجأ و سلمي...

و احد باسم رجل.

و آخر باسم امرأة.

و هفا عليه الحسين، و هو يقول في سره:

سيكون لك يا فتاي.

أن ترسم جغرافية القمم.

و هيكلية الإنسان.



[ صفحه 76]