بازگشت

امتداد الخط


ان الخط الممتد هو خط الرسالة عبر الخط العريض المتفرع منه و هو خط الامامة. لقد رأينا في القسم السابق من هذا الكتاب، و عنوانه «خطوط عريضة» أن النبي العظيم هو ركيزة الرسالة المستوحاة من واقع الأمة التاريخي في أمس حاجاتها الي مقومات روحية - فكرية - انسانية - اجتماعية، تضبط شؤونها الحياتية - المصيرية، و تنطلق بها الي التأسيس، و التركيز، و الفلاح. و هكذا اتضح لنا من البحوث الواردة في هذا القسم أن الرسالة هي الحاح مطلبي - رسالي، تتكيف به أمة عريقة في الوجود الانساني المتشبث برمالها العربية، و بانفتاحاتها الجغرافية علي جميع المقالب الأربعة من حواليها و المليئة بالجاذبيات السخية، و بجميع أنواع المغريات. ستوظف الرسالة هذه الأرض المطروحة في أحضان الشمس الوسيعة، و ستمغنطها بحرارتها المخزونة في أحشائها منذ انفراج النور، و ستنبه في خاطرها بأنها حضن أمومي وسعته - بالأفواج البشرية - آلاف الحقب.

وحده النبي أدرك أن علي الجزيرة العربية - مثلما قدمت للجوار أفواجا بشرية تمازج بها هذا الجوار واحتواها - أن تتابع اليوم مسيراتها التدفقية، و تقدم مددا رساليا كامل الحضور تستفيد منه الأمة الخالدة في توارثها و امتدادها الخالدين، و وحده أدرك أهمية هذه الرسالة، و رجاحة دورها في التحضير الانساني الناشط الذي يلملم هذه الأمة من متاهاتها



[ صفحه 86]



المزمنة، و يسترجعها الي الحقيقة الواعية و المؤمنة بقيمة المجتمع الفاعل عندما يكون مرصوصا بالعلم و الفهم، و الايمان بخالق يزين الروح بالتقوي، و يعالجها بالخلق الصادق و النهج المستقيم.

كان القسم السابق - برمته - تلميحا موجها لتبيان قيمة الرسالة في معالجتها شؤون الأمة معالجة مبثوثة في جميع الخطوط العريضة المتفرعة منها: فالأمة، و الأمومة، و الإمامة التي رفض - بعض منهم - حجم حروفها فاستبدلها «بالخلافة» هي كلها متشابهة و منطلقة من الخط الرسالي - و هي بحوث من أجل حماية الخط و رعايته، و الانطلاق به الي نصاعة الديمومة و وجاهة التحقيق.

لم يكن هم النبي محصورا في التفتيش عن نقطة دم تجري في عروق من يخلفه حتي تصح الخلافة، و تصفو السلالة التي ستتربع فوق أريكة العرش - بل كان الهم ملتهبا بعزم الرسالي المتشوق الي رائد تتجانس حروف اسمه مع حروف آيات الرسالة، و يحمل من معانيها مقالع روحه، و مدارج فكره، و يسمو بها و هي تسمو فيه: مرانا، و مراسا، و انحفارا غائرا في عمق النفس، و طويات السليقة.

لقد وجده النبي - هذا الرائد - نائما تحت السقوف العالية من بيته المصمود في القبة الزاهرة، انه هو العلي البطل المسند رأسه فوق الوسادة ذاتها الممدودة فوق الفراش المنسل منه الرسول الهارب من فتك الأقربين الحاملين رغوة الدم، لأنه يحمل اليهم رسالة يأبون أن يتناولوها من يده - ولو منورة...

علي هو المفتش عنه بحرارة الشوق الذائب في حروف الرسالة، لا لأن يكون خليفة - بحروف الكلمة الصغيرة الملطخة بأمجاد العروش - بل لأن يكون اماما منبثقا من مجادل الرياديين، حتي تشرئب من فوق منكبيه رسالة بهية تبهو بها أمة العرب، و فيها تقتدي أمم الأرض. هكذا فنلكن



[ صفحه 87]



مقتنعين - أبدا - بأن النبي ما كان مفتشا عن خليفة يمتد به اسمه، بل عن امام تحيا فيه أجواء الرسالة، و تستضي ء بها أرجاء الأرض.

و هكذا أيضا فلنظن مع النبي: بأن الرسالة لن تعيش الا في أشواق الامامة، و أن الامامة لن تكون حرزا الا إذا انبثقت من ضلع الرسالة، كما ينبثق الجنين من رحم أمه المروية بألام الحنين.

من هنا أن الامامة مرتبة تنظيمية، تعب النبي علي تنظيمها و تزنير الرسالة بها جدارا صامدا في حقول الاحتراز، و لقد متن هذا الجدار بمداميك المران، و وثقه - صلبا - بمراس منور بعلم، و فهم، و ادراك.

لقد طال مران علي بين يدي الرسول حتي بدا كأنه انشطار منه، و هو يصغي الي انزلاق آيات الرسالة من شفتيه، أو الي صدي انهمارها من موقي عينيه، أو الي حفيف الاشارات المتهافتة عن راحتي كفيه.

لا شك أن المراس يزيد الكسب، و يلون الكاسب بالغني الفريد، و كذلك المراس يتصلب بالمران و يغدو في مساهمة فاعلة، لا تخطي ء و لا تريب.

و طال أيضا مران الحسن و الحسين بين يدي جديهما الرسول في فترات الطفولة، و بين يدي أبيهما الإمام في ادراج الفتوة و الرجولة، فكان لكل واحد منهما - من وحي ما حفرت فيهما مركزات الرسالة - تصرف فذ و مبتكر، جعل الحسن - في وطأة الأحداث - يحقن دم الأمة و يرتق صدعا فيها كاد يردها الي جاهلية قبائلية تنسيها أن نبيا منها أنجب رسالة تلملم الأرض كلها و تلفلفها بالجنان... و جعل الحسين - في مدي عشرة أيام - ينشي ء الياذة البطولة و العنفوان، باذلا دمه الأحمر في رفض الذل، و رفض الامتهان، مبديا للأمة: أن عزة النفس - وحدها - تحيي الانسان.

أما الآن و سيرة امامنا الباقر لا تزال معنا في مراحلها الأولي - فاننا نراه قد شد زناره علي خصره الصغير، وراح الي حضن أبيه المتسلم جديدا



[ صفحه 88]



امامته المتذوقة مرارة الألم و فداحة الأحزان.

سيكون له من الآن و صاعدا - علي مدي ثلاثين سنة - أن يشاهد أباه زين العابدين، كيف ينام، و كيف يقوم، و بين يديه كتاب يغوص فيه و يستخرج منه ياقوتا و مرجانا...

سيقرأ معه الآيات، و سيستمع اليه يرتلها بالسجود و الابتهال، و سيصغي اليه يفسرها بمعانيها و مقاصدها البينات... ففيها العلم حتي يذوب الجهل من كل عين غبية... و فيها الفقه حتي تتبصر النفس بحقيقة قضاياها... و فيها الكشف عن شموس نيرات، حتي تمتلي الحياة من عين باريها... و فيها الحق، و العدل، و الخير، و الحب، و السماح، حتي تتقطع حبال التعدي و الاجرام، و حتي يموت - جوعا - كل رجس، و كل ذئب، يتلطي خلف السياج، و حتي تعم بطاحات الأرض خيرات السماء، و حتي تشملها طمأنينة عاقلة تمحو الخنزير من ذهنية الانسان... و فيها - بنوع شامل مطلق - أمر بالمعروف، و نهي عن المنكر، حتي تنمو الأمة بالنرجس و الخزامي و تصفو مخابزها من خدر الزؤان.

ليس قليلا ما سيجنيه الفتي، و قد خلا من تحت عينيه جده الحسين، ليعيش في كل ذهنه النامي: بالتأمل، و التفقه، و التمرس، و المران.

ستكون البحوث كلها - و ان وردت مجزأة الالمام في القسم السابق تحت عنوان «خطوط عريضة» - من ضمن ما سيختزنه في حقول الاطلاع، يغذي به تدرجه الواصل به الي مسؤوليته الامامية، عندما تحين ساعات الوصول... انه الآن - في قمصان أبيه - امام في ظل امام.



[ صفحه 89]