بازگشت

من الكوفة الي الشام الي يثرب


لقد رأينا كيف اهتزت خشبة المسرح في كربلاء عندما ثقب الفتي الصغير محمد الباقر، باصبعه الطرية، بلاس المخيم، و مد عينه من الثقب، و شاهد الرقص... و لم يكن يدري ما هو الرقص، و لا كيف يلهو به الراقصون... ولكنه، بعد أن جنت به الدنيا بأحلامها الشوهاء، قذف البلاس و ارتمي في الساحة المخبولة، يسأل الجريمة ذاتها:

- ما هذا الذي تفعلين؟

و قهقهت بوجهه تلك المأفونة الشمطاء، و صفعته بالجواب:

- عبيدالله بن زياد - حاكم الكوفة، و حاكم الساحة في كربلاء، سيشرح لك - أيها الفتي الغر - ما معني الرقص، و ما معني الجهاد...

و انتفل الراقصون صوب الخيام يعرون أوتادها من قمصانها السوداء، و يسوقون النساء و الأطفال سبايا محزومين بالأمراس، أما الفتي، فهو الواقف الآن محزوما بخصر أمه فاطمة في القاعة الفسيحة من قصر الحاكم عبيدالله بن زياد.

منذ هذه اللحظة - و عبيدالله يتناول السبايا فردا فردا بعينه المزمومة، و أنفه المسطوم - بدأت عين الفتي تستدير عدستها و تتغور، و راحت أذنه تتكوف و تتنصت و تتقعر... ليس للصدمات - في النفوس الذكية - الا أن تحفر صداها في جدار الصدر و تتسور...



[ صفحه 90]



لم يطل المقام تحت عين الحاكم، و بعد تهديد بسحب عنق علي بن الحسين، ورش دمه علي أكتاف الحريم و الأطفال، مما أهلع السبايا، لاسيما الفتي المصغي محمد، عاد الحاكم و أرجأ تنفيذ الجريمة الي الخليفة يزيد، بعد أن أمر شمر بن ذي الجوشن بحزم السبايا وسوقهم الي الشام حتي ينظر الأمير بشأنهم و يتدبر.

رتب قائد الحملة شمر الجوشني قافلة لا شك أنها كان مميزة بحقارة توحي بأنها تليق ببقية تقيأتها مسرحية كربلاء.

عدة أحصن مجللة ببرادع مخططة كالأبراد، كانت تعتليها حاشية القيادة، و بعض جمال محملة بالمؤن و قرب الماء كانت تنقل زاد الطريق الطويل الممتد من الكوفة عبر واقصة حتي صحراء تدمر، و اتجاها مكدودا لا يرتاح الا في واحات الشام، أما الحمير، و البراذين المسودة تحت وطأة الشمس، و المحررة من البرادع و الأجلال، فكانت تحمل السبابا من النساء و الأطفال، و ليس بينهم إلا رجل واحد، في مستهل الثالثة و العشرين من عمره اسمه - فقط - مع ابن ذي الجوشن: علي ابن الحسين.

لقد سأله يزيد، و هو ينقل السبايا و يصفهم في قاعة القصر في الشام، ملصوقين بالجدران:

- من يكون - من الزمرة - هذا الناجي وحده من تحت السيوف؟

فأجاب ابن ذي الجوشن ببراءة الذئب يمسح بيده شفيته من لطخ الدم:

- اسمه علي بن الحسين... لم يتلقط بعنقه: لا نبل و لا سهم،

و لم تغتسل بوريده نصلة السيف... لأن هزالا عنيفا من اسهال مستبد:

عزله الي ما بين الحريم، فسلمت أمعاؤه من البقر الأحمر...



[ صفحه 91]



و قاطعه الأمير، و في نبرة صوته رجفة من ضمير:

- لا تكمل يا شمر... و دعني قليلا أتبصر...

فكوا أغلال القوم.

خذوا الأسيرات ألي غرف القصر و ألبسوهن ثياب الأميرات.

أما أنت أيها الامام، فلك ما تريد...

الا أن تطلب ارجاع رأس أبيك اليك...

سيقودك النعمان بن بشير - ساعة يحلو لك - الي يثرب... فعد اليها...

ولكن... لا تتجاوز هناك الحدود... أرجو أن تودعني بكلمة.

و أجاب الإمام بصوته الخافت:

- كلمتي الوحيدة أيها الأمير:

لا تؤذ الرعية...

لعل جدي النبي... يغفر.

قاد النعمان بن بشير قافلة آل البيت الي يثرب. - أما الفتي محمد، فانه التصق بأبيه المأخوذ بحزن النفس، التصاق القشرة بقضيب البيلسان... لم يبك... لم يتأوه... لم تنقر شفتيه - بين الحين و الحين - الا كلمتان: «جدي الحسين»...

أنا لا أحسبه الا استوعب الفجيعة كلها، بكل أبعادها، و كل مآسيها... لقد وهبه الله سبابة في كفه نابتة من رهافة: لا هي من اللمس... و لا هي من دوحة الحس... و لا هي من دفقة الأحلام.. انما هي من سبيكة روحية ذابت علي قضبان المشاعر... و هي من اختباء النهي في الخلايا النائمة في عب الضمائر.



[ صفحه 92]