بازگشت

و في يثرب


(1)

انها مدينة الأنصار، و هي المدينة المنورة، لقد تنورت بلجوء النبي الكريم اليها هاربا من ملاحقة الكفار.

لقد كفكفته المدينة و هي تستظل عينيه الواسعتين، ففاضت عليها منهما دفقة الأنوار... تلك هي حكايتها التي لا ينتهي من حفرها في أذن التاريخ أهل آمنة - أم النبي الحبيب - و هي المسلوخة من بني النجار.

لقد اعتادت هذه المدينة المطوية علي حناياها الشهية أن تنعش ذاتها بالشهوة ذاتها، و أن تشرب ضوءها بعدسة عينها، و أن تأخذ الحق، و تشتبك به فلا تتركه حتي ولو حولوه صليبا و عليه صلبوها.

لم تخذل هذه المدينة النبي و عانقته عندما ساقه الله اليها. انها هي التي ساندته و آزرته، و ضربت معاولها في الأرض و حفرت له أساسات المسجد، و طيبت حنجرة بلال فرنم آيات الرسالة من فوق أول مئذنة هتفت بآذان الجزيرة: حي علي الصلاة، حي علي الفلاح، الله أكبر... و عندما تعبت عين الرسول من بث النور في ساحات الجهاد، أغمضها في الغفوة المستنيرة، فتناولته هذه اليثرب المعتقة كخمور الأندرينا، و أنامته في أدراج الضريح، و لا يزال النور مسكوبا علي أدراج الضريح.



[ صفحه 93]



و فتحت يثرب دفتي صدرها للحسنين الوافدين من الكوفة حتي يتدبرا أمرا شاءه الله أن يكون مقضيا... و عندما ارتشف الحسن نقطة السم، لفلفته يثرب بقميص الذكر، و أدرجته قرب أمه فاطمة الزهراء في حنوات البقيع... لقد ماتت فاطمة من فرط الحنين، و لا يزال المثوي الحنون حتي الآن مبلولا بدفقات الحنين...

و ها هي يثرب - في اللحظة المرة - لا تدري كيف تذرف الدمع، و لا كيف تنسي الالتياع، و علي بن الحسين، يقف علي أبواب زواريبها المترنحة، يتفل أمامها قلبه المسفوح علي أبيه الحسين..

لقد أدركت يثرب - و هي تصغي الي حزن الراجعين من خريطة كربلاء - أن صورة الحزن أصبحت حية تتحرك في الخواطر، و أن الحسين انفتل انبثاقا آخر، و أصبح رقعة من مساحة يتسع بها الزمان الملتف بجوهر الحدث... و أية قيمة للزمان ان لم ينغرس في المكان و تخرج منه ألوان السماء؟.

يا للحسين - تقول الآن يثرب، و قد احتضنت النبي و امتصته رسالة حية في ألغازها و رموزها الناطقات؟ - يا له، يفسر أباه عليا وجده النبي، و يبذل دمه حتي تتلون بالحياة تقاسيم الصور... ستكون الرسالة حية به، يوم تحتويه الأمة معني من المعاني الكبيرة التي ترفض الحقارات الذليلة، و تعشق الحق يفسره العلم الصحيح الواسع، و تنظم حواشيه حلقات الحجي.

(2)

و انطوت العائلة في يثرب بأفراد بافرادها الباقين و الناجين من تحت رزء الفجيعة. لقد عفا عنهم يزيد، عشيق الشام، وردهم مخفورين بالنعمان بن بشير، ذلك الذي ربط معاوية بقميص عثمان - ردهم الي يثرب، مدينة



[ صفحه 94]



النور، و مدينة آمنة أم النبي، و مدينة الأنصار... ردهم الي البيت القديم في يثرب، فانطووا فيه بيتا ينام تحت ظلين: ظل كأنه القوس الممتدة من سقف المسجد الملاصق الي ما خلف بهاء المجرات، و ظل ناعم وارف، تغمر الساحة به - أمام بوابة البيت - شجرة آراك غرسها النبي الحبيب - في ساعات اللهيب - حتي تتفيأها ابنته فاطمة مع رفيقها بالصدق و الطهر علي، و مع ابنيهما النجيبين الحسنين.

في هذا البيت - بأقاليمه الخمسة - تفتقت حروف اللغز المبارك، و حصلت عملية اذهاب الرجس، و مسح البيت بالطهر المطهر.

هنالك بستان ممتدد خلف البيت بخمسمائة شجرة من باسقات النخيل، راح يعتاش بها أهل البيت بقيادة الإمام الجديد المتسلم مهماته الجليلة. الي هذه النخيلات كان يتجه الإمام زين العابدين ليسجد كل يوم بصلواته المناجية رب العالمين، و الي جنبه فتاه محمد المتيقظ علي كل بادرة كانت تحصل أمامه بكل جديد نابت تحت عينيه.

لقد بدأ التدرج ينبت سنابله في الظل الطري: سؤال من هنا و لمح من هناك، و كانت تتوضح فيهما آفاق تنبسط بها الأبهاء.

(3)

و الحزن... انه العميم في يثرب - تجمعت به و جاءت كلها الي محارم البيت تشاركه بدمعها الأحمر، و تغرق معه في مهابات التأمل... لم تخف يثرب من الدمع يقرّح عينها و أجفانها، ولكنها استعذبته يجلو النفس فيها و يجللها بنقاوة الايمان. صحيح إنها خسرت اماما حسينيا بهيا، ولكنها ستجده في حقيقة الذكر، و حقيقة النهج، حيا في مهجتها، يعلمها كيف تنتصر علي الذل و الضيم برفضها الحاكم يرهقها - بهما - و هو المتولي شؤون الرعية...



[ صفحه 95]



انه الآن يعلمها حقيقة العلم: أن العدالة و الاستقامة موهبتان مستنيرتان بالحق يجلوه العلم، و الفهم، و نقاوة الوجدان، و أن البيت الذي ينجب مثل الحسين هو المتسلسل في حقل المواهب النبيلة المتشددة بالحق المتمرس بحقيقة الرهان... انه بيت الرسالة ينطق بها نبي طاهر العين، و طاهر اللب، و طاهر الخميرة، و ها هي مقاصده الطاهرات الزاهيات، يجاهر بها علي مفسرة به كأنه كل الحق. المجدول في مسلسل الآيات... ليس الحسن الا اماما مسطرا بنهي البصيرة، و ليس الحسين غير صوت آخر، يصغي ضمير الكون الي عمق صداه، و ها هو البيت يستمر مشدودا بهذا العلي الثاني الذي شاهد عاشوراء أبيه تزفر زفر الجحيم - ليس علي أبيه - انما علي حاكم غبي جرده الجهل من العلم، و من الحق، و من اعطاف التبصر، فارتكب الجريمة الشنعاء!!.

كل يثرب جاءت تشارك أهل البيت، و استهامت بالمشاركة: تارة دمعا لا تقدر أن تحتجزه المقلة، و طورا انسكابا في تأمل و صمت يشهدان لها بالتأهب الضمني لحسن التبصر في القضايا الكبيرة التي تخفف من قيمتها في المجتمع كل المتاهات المبتعدة عن احتياز العلم، و عن الاعتصام بالحق و الصواب.

جابر بن عبدالله الأنصاري تبصر به النبي طويلا، و تمني عليه أن يعيش في يثرب كما تعيش الخمائر في أشواق الطحين، و تمني له أيضا أن لا يرمي من يده عصا الشيخوخة الا بعد أن تقع عينه علي فتي من صلبه شبيه به - هو الرسول - خلقا و خلقا، و أسرع هذا الصحابي معكزا علي عصاه العتية، يشارك الآتين من كربلاء مصبوغين بحزن الفجيعة... شاقه أن يري الحزن لا يستقر في النفس الا ويبنيها بناء جديدا، فيه من التصبر و التبصر ما يضاعف الايمان بالرشد، و يشدد البطولة في تحمل البلية... شاقه أن يشاهد المعتدي عليه لا ييأس من معونة ربه، و لا يحقد الا علي الجهل العفن القائم في سريرة المعتدي.



[ صفحه 96]



وقف هذا الصحابي الذي استطابته عين النبي، خلف الإمام علي بن الحسين الذي لا يزال فتيا في امامته الملقوطة بفداحة الحزن، و لم يبادره الا بعد انسلاخه من سجوده الطويل، و الدمع الأحمر يحفر قناة في وجنتيه الذابلتين - قال له ما معناه:

- سيدي الامام، لماذا تحمل نفسك مما يضني جسمك الهزيل؟

الأمة بحاجة اليك يا سيدي.

ترعاها بجهدك المتعافي.

لا بحزنك المتمادي...

سمع الفتي النجيب محمد، مقالة الشيخ الوقور - و هو من الخلف مطرقا يصغي، فاتجه اليه يأخذ يده و هو يقول:

- بالأمس يا عم رجوت أبي مثلما رجوته أنت الآن:

أن يخفف عن نفسه عناء يهزله و يضني جسمه.

فجدي الحسين قد غاب - و ترك عليك يا أبي صدق المناب...

أبي يا عم لم يصغ الي - عساه يصغي اليك.

تناول الشيخ الفتي بين ذراعيه، و تفرس به مليا ثم قال:

- أنت حكايتي الطويلة يا ابني، أخبرت جدك الحسين بها.

فسماك باسم محمد.

أنت شبيه بجدك النبي يا محمد - لقد كلفني أن أقرئك السلام.

بعد أن أقولك لك: انه لقّبك بالباقر.

- الأمة بحاجة يا ابني لمن يبقر لها العلم.

فتستنير به في مشوارها الطويل، و تنجو من جهل يعتم عليها المسير.



[ صفحه 97]



و أجاب الفتي بكل اتزان:

- سأستعين بأبي الإمام و ألبي جدي العظيم.

- سأستعين بك في تركيز مقاصد جدي الرسول...

منذ هذه الساعة المليئة بالفهم و العزم، كتم الإمام علي بن الحسين حزنه في عبه، و اتجه نحو المسجد يوسع فيه مقاعد الدرس - يا لجامعة أهل البيت يركزها اليوم امام تلوّن اسمه و أضحي: زين العابدين.



[ صفحه 98]