بازگشت

زين العابدين


(4)

منذ ما يقارب الخمس أو الست سنوات و الإمام الصغير محمد يتنقل فوق الأرض في يثرب، لا زاروب من زواريبها العتيقة الا و أصبح يشعر: أن خطوات العابر فيها - ناعمة - كأنها لمس فراشة، و خفيفة، كأنها من الحلم مسروقة، هي للامام الصغير الذي يمشي كأنه الغافي، و بين تجاعيد شعره مهابة تطل علي جبينه كأنها دهشة رشيقة الظل، و هي به مستورة.

هكذا بدا لي أن أصف خطوات هذا الإمام و هو في صغره، مع العلم أنه سيمشي بها ذاتها في كبره، علي فارق شكلي لا جوهري، سيعينه: نمو القدم، و تضخم الساق، و بدانة الجسم، أو تطور صحي آخر، يلون القيافة و يدق فيها جديدا من ميسمه.

دائما هي الخطوات السليمة و الصحيحة و البريئة، تحمل شكلها، و صدقها، و لونها مع الصغار، صافية و خالية من التصنع و الدجل... مع نوع من التأكيد ان نوعية الخطوة التي تألفها و تحفظها قدم الانسان، هي تعبير دقيق عن نسبة الصحة في بدنه، مقرونة بالعوامل النفسية - السليقية - العقلية النائمة كلها في شخصيته المهيأة للبروز.

ان خطوات الانسان - و هو يمشي - هي المكيفة بما هو مخبأ في ذاتية صاحبها من مزايا و صفات، لو صح تعهدها و استدرارها، لنطقت بالحقيقة



[ صفحه 99]



الكامنة في تلك الخلية.

ان يكن البحث هذا بحاجة الي تعليل فلسفي - نفسي، أو فيزيائي أو كيميائي له ضلع من ضلوع المعادلات... فما أحرانا ننتظر أمامنا الصغير حتي تشتد خطواته، و تمنن ضلوعه و فقراته... و ساعتئذ فهو المدعو الي تجهيز الجامعة العلمية في مسجد يثرب بمواد الفلسفة، و الفيزياء، و الكيمياء، و علوم الأشياء، و الهيئة، و الحساب، و الهندسة... سيقدم لنا مثل هذا التعليل الموجه - هو بذاته - من فوق منبر جامعة المسجد، إذا تصبرنا الي ذلك الوقت و انتظرنا...

(5)

و خطوات الإمام الصغير، أكثر ما كانت تشد به - باكرا من كل صباح - نحو الدار التي يسكنها صديقه الشيخ الجليل جابر بن عبدالله. لست أدري إذا كانت الصداقة بين الناس تغطي بعضا منهم بمثل هذا النوع من الشغف المصقول، و الذي يأخذ كلا من الشيخ الأنصاري، و هذا الفتي النجيب المطوي في ذاته كما ينطوي النور في زجاجة المصباح.

لقد كان هذا الشغف، عند الشيخ المسن: يأبي عليه - لحظة يدخل عليه الإمام الصغير - الا أن يأخذ يده، يقبلها و هو ساجد، و في عينيه دمعتان لا تنحدران و هو يقول:

- كيف لي أن لا أتصرف هكذا بين يدي من هو شبيه بسيدي الرسول؟.

أما الإمام الصغير - بعد عجزه عن اقناع الشيخ بالاقلاع عن مثل هذه الوتيرة - فانه راح بدوره يجلس ازاءه، طابعا علي متن كفه قبلة يعمقها الوقار، و رأسا كان يبدأ بالحوار.

لقد كان الحوار ثمينا هذا الصباح، بدأ بطلب مقتضب، ولكنه مغلف



[ صفحه 100]



ببعد روحي و فكري و نفسي مشتاق الي استكشاف عن الحقائق الكبيرة الدائرة فيها نوازع النفس، وارادة الله المصبوبة في كنه الحياة و أزلية الوجود.

أما الشيخ الوقور المتقبل الطلب بكل ما فيه من أبعاد، فانه كان ينطوي الي نفسه و يتناجي بالصمت المقدس الجائل في خلده:

- يا للشبيه الذي تجاوز عمره الصغير المحدود الآن بعشر سنين.

الي عمر آخر كأنه أوسع من عشرة دهور..

أتراه يقرع أبواب المطلق، اذ يطلب مني كشفا عن حواشي المطلق؟.

لقد كان الطلب محصورا بتوجيهه الي رجل ربط عمره كله بعمر النبي في رفقة لم تنقطع...

انه كشف شامل عن كل ما يعرفه هذا الصحابي الممتاز عن حياة الرسول ، ألم يخصه الرسول - دون سواه - بنقل الوصية الي حفيد له متحدر من صلبه، و شبيه به، طالبا اليه أن يكون واحدا في خط الامامة موكولا اليه أن يلبي الأمة بأشد ما تحتاجه الأمة: و هو تفجير العلم الذي به تستنير... لقد عين الإمام الصغير حيثيات الطلب، و قيد الشيخ بالجواب عليه، لأنه كان المخصص بحمل الوصية.

لقد شعر الصحابي الكريم بثقل الطلب، و أدرك مليا أن الإمام الصغير الذي هو الآن في تمام حضوره، هو الممثل الممتاز لجده الرسول،و أنه فرض ارادته بنوع من طلب و لا بد من أن تلبي الارادة بنوع من أنواع الخضوع.

و لقد أدرك الإمام الصغير - بدوره - أن السيد الجليل الغارق أمامه بصمت الخاشع المتأمل، يحضر كل قواه الفكرية و الروحية و الذهنية لتقديم الجواب الوسيع و الطويل و المجهد، لهذا رأي أن يخفف عنه حجم العناء فقال:



[ صفحه 101]



- أنا أعرف يا عمي الكبير أن طلبي لا يكتمل الجواب عليه...

لا بوقت طويل و لا بوقت قصير. لقد لمح لي أبي الإمام عندما التمست منه - أمس - ان يعرفني الي حقيقة جدي الرسول.

فكان جوابه: (انما جدك الرسول هو ضلع من ضلوع الشمول...

رويدك... خذه علي مهل - بما يمليه عليك اللمح المتبصر -

كلما احتكت عينك بحرف من حروف الآيات المدرجة في كتابه الكريم...

لقد أكبرت الجواب و احترمته يا سيدي، لهذا فاني سأكتفي منك.

بأن تقدم لي بعضا من لمحك حتي أشترشد و أنهض الي القيام

بما هو موكول الي... لقد بلغتني - أنت يا سيدي -

ما هو موكول الي... ألم يطيبك جدي بعلم و بيان توسع

بهما الطريق أمام قدمي المستعدتين للعبور؟

سآتيك مع كل صباح ينجلي به الغد، حتي نفي - أنت و أنا - نذرا وعدنا به جدي الرسول.

قال الإمام الصغير مقالته هذه و انسحب خفيفا كالطيف، أما الشيخ المجلل بالوقار فانه تماسك بركبتيه الساجدتين، و رأسه مغمور بهالة كأنها من فيض المناجاة.

(6)

لم يعد الإمام الصغير يعرف كم صباحا مر عليه مع صديقه السجاد مثله في حضرة جده الغائب المالي ء جو المكان. كان الشيخ - وحده المسترسل بقول كأنه الهدل، و كان الفتي - وحده - المصغي الي هطل كأنه النهل. لا بدع... فالصدق و الحق - كالشوق و التوق - وحدهما - في زينة النفس يملآن فيها الفراغ.



[ صفحه 102]



لك يترك الشيخ شيئا من الحواشي، و هي المنبثقة - أبدا - من دائرة الجوهر، الا ولمسها في تطوافها الصادق: تكلم عن جدود النبي في أمة الجزيرة، و هم الأبعدون، شبه الملموحين، مع الذين أصبحوا معروفين في حقبات التاريخ... و راح يهاجر معهم زرافات زرافات، ثم أفواجا أفواجا، الي كل جهة من جهات الجوار، و لا سيما الجوار المشدود بأرض الشام و العراق، و أرض البصرة و الكوفة، أو الأرض التي ترضع من أثداء النيل... لقد امتزجوا بالأرض التي حلوا بين ظهرانيها، و اشتركوا مع القدامي فيها بالعمران و الانتاج، و أدوا قسطهم مما أحرزوا من فهم و علم، حققوا بهما أبجديات و حضارات.

و تكلم عن الجدود الأقربين، و من أميزهم الهاشميون الطالبيون و المطيبون بظهور النبي. هنا ابتدأ الكلام الحميم: عن الأب، و عن الأم، و عن الولادة، و عن الفتوة، و عن السلوك المتفرد بالمزايا و الصفات، و عن الزواج، و عن الانجاب، و عن تعلق الأمين محمد بعلي كما يتعلق السحاب بالغمام، و عن تحسسه بارتجافات ممغنطة و منزوفة من تأودات الروح و عوالم الغيب، و عن الاختلاء في غار حراء كأنه تفجير التأمل و استرفاد التخيلات.

لا شك في أن الأحلام كلها قد استنزلت من عوالمها و راحت تتجسد في الحروف الموسعات، و راحت الرسالة تفتش عن الدروب لتملأها بالتنزيل الهابط من علو السموات ... و ابتدأ الصراع بين حق تنتصر به قيمة الانسان، و باطل تنحط به قيمة الانسان.

من مكة الي يثرب تم الذهاب، و من يثرب الي مكة تم الآياب... من هناك - هروبا - الي هنا، و من هنا - رجوعا - الي هناك، تم النصر بسواعد الأنصار، و قرت عين الرسالة و تحقق الاسلام.



[ صفحه 103]



هنا استفاض حديث الشيخ و التهب ببطولات الأمس، وراح يتكلم عن صدق الأنصار باقتناعهم بروعة الرسالة... و تكلم عن كل الوقائع الحربية التي حصلت بين المدافعين عن الرسالة و المتنكرين لها، لا سيما معركة أحد، و الخندق، و خيبر، و قينقناع... و استفاض الحديث عن دخول المنتصرين مكة، و تحطيم أصنام الكعبة، و تحرير الجزيرة من عبادة الأوثان.

هنا توقف الشيخ قليلا ليفهم امامه الصغير المستغرق في الاصغاء، أن كل ما عرضه حتي الآن هو حاصل تمهيدي و تحضيري يعين قيمة الرسالة من خلال الجهود الطويلة و الثقيلة، و المهج العزيزة و المبذولة، من أجل الانتصار بها رسالة يقوم بها - وحدها - مجتمع الانسان... و لقد رأي أنه من الضرورة أن يحيط الإمام علما بها، حتي يلم بكل الشؤون.

هنا ابتدأ الفاصل الثاني و قد ارتدي ثوبا أجل و أوسع: تناول المجتمع و أهمية المجتمع، و تناول الجزيرة و تاريخ الجزيرة مع كل ما فيها من رمال، و واحات، و قبائل، و حبال أطناب، و توقف مليا علي كل حرف من حروف الرسالة، و كم هي - وحدها - الناطقة بجهود الرسول و نبوة محمد... و تكلم عن الامامة المرصوفة علي المتانات النادرة، تركيزا علي عبقرية فذة اسمها «علي»، و وصولا الي تحقيق باهر مختوم بانتصار المهدي المنور بالحق في مجتمع الانسان... سيكون المهدي، و هو الإمام الأخير المرتجي، اندماجا حضاريا في مطلق مجتمع من مجتمعات الانسان فوق الأرض، يحققه العلم الوسيع بالحق، و الفهم، و العدل، و النظافة المثلي التي تحرزها حقيقة الانسان.

أما العلم المطلوب في ايصال المجتمع الي حقيقته الناصعة، و نزاهته الجلي، فهو الذي تبشر به الرسالة و تحتويه من دون شرح و لا تفصيل، و هو الذي يتوسله المجتمع، بعد أن يكون الباطل المخيم تحت أوتاد



[ صفحه 104]



الجهل قد ضرب سنانيره في المجتمع و كاد يشل أوصاله... و عندئذ فان المعاناة الطويلة من جرة أذياله، هي التي تحضر الانتفاضات الرصينة للتخلص من رعونانه و غباواته المستهجنة... سيكون العلم - وحده - ملفوفا بالرسالة، في تحقيق الثقافات المنتصرة علي الجهل و الظلم، و مص الدم من كل وريد تنبض به مهجة الانسان في مجتمع الانسان.

لم يرد الشيخ الا أن يختم حديثه بهذا القول:

- أرجو أن تأخذ مني عذري يا سيدي، فأنا ما قصدت أن

أرشدك، بل أن أطلعك، بأن كل ما قلته في مسمعك هو

جزء زهيد مما ستحيط به في مطلع الغد

جدك النبي، يا امامي الصغير، هو الذي زرعك في الامامة...

لو لم تكن لها ما زرعك...

الأمة ذاتها - في حاجتها الي العلم - ستفتش عنك -

حتي تجدك... و لن تجدك ان لم تكن أنت في الحجم

الوسيع الذي يعبي ضلوع الدائرة... و ليست الأمة الا الدائرة،

و هي المؤلفة من كل فرد فيها، و من كل يوم لها،

و من كل عمر تطول به فسحة الغد...

و لن تكون الدائرة الا في متانتها، و الا... فانها - من لحظة الي لحظة - هي المنهارة.

العلم وحده يا امامي الصغير، يحضر الركائز، و يمتن الخيطان التي ستنفتل حبالا، و من يوم الي يوم أطول، تشتد الحبال و تنشد بالقبضان.

عندما يتسع العلم و يزهو، و تتملكه الأمة و يغدو في موعدها المثقف، يكون قد حان الوقت لانتصار الحق و التعبد له...

ان الأمة كلها - في الوقت ذاك - ترفض أن تري في ساحاتها العريضة حاكما يرنو اليها و فوق صدغه نقطة سوداء.



[ صفحه 105]



تفوه الشيخ بمثل هذا النهج و هو كأنه الحالم... ثم تحول نحو الفتي و لفه بعينيه و أكمل:

- لو أن الأمة بلغت هذه السوية الرهيفة لما ريعت عينك برؤية جدك الحسين ممزقا فوق الرمال..

ألا تقول الآن معي:

ان الجهل هو معتم البصائر.

و ان العلم هو المزين الضمائر.

لقد وصاك جدك الرسول بالعلم الكبير، لا بالعلم الصغير...

فالعلم الصغير هو الذي تتزين به وحدك.

أما الكبير فهو الذي يربو اليوم ليكبر به الغد الذي يتألف منه الدهر، و الذي هو بحجم الرسالة التي هي الأمة في حقيقتها العظيمة.

خذ العلم - بهذا الحجم - اليك، و فتش عنه اذ يفتش عنك و هو يأبي الا أن يجدك.

- و العلم ذاته سيفتش عنك حتي تفجره للناس - و لو أجهدك - فاطلبه قبل أن يطلبك.

فتش عن حملة له في مصر و جنديسابور فلك فيها أهل أوفياء...

نالوا من جدك سماء، و لن يمنعوا عنك استجابة النداء.

و أيضا فاطلبه من الهند ... و من الصين.... و من كل رجا من الأرجاء...

حتي من الاغريق، فهم الذين انتقلت إليهم - من جدودك الأقدمين - تلك الحضارات.

فالعلم حق... و هو كالنور هبة من الله...

و لن يحجز النور... تحت مكيال...



[ صفحه 106]



ما تلفظ الشيخ بالكلمة الأخيرة، حتي انحدر خفيفا خفيفا برأسه علي ركبتيه الساجدتين،،، و غلفه الصمت:

بعد لحظات صارمة، أدرك الإمام الصغير أن صمتا ساجدا تناول الشيخ الي جده الحسين، و جده الرسول... بعد أن أدي الوصية و وفي النذر...

(7)

ما كانت يثرب تعرف الحزن الطويل المعصور من ألم النفس، الا بعد أن أغمض النبي عينيه و اندمج في حقيقة الذكر. لقد حفرت له تحت مئذنة المسجد جدثا موصولا بالقبة التي تخفق كل يوم بالنجوي العلية، و هكذا الحزن نورها - هذه اليثرب - حتي غدت به كأنها ذوب من العشق المقدس.

و عندما غرق علي في فجوة الجرح المدمي، عجنت يثرب حزنا بحزن حتي لا ينتسي الحزن الرفيع... و لما انصبغ الرمل في كربلاء بالصبيب من دم الحسين، هبت الي بقيع الغرقد توقظ الاثنين: فاطمة الزهراء بنت الرسول، و ابنها الحسن المؤمم، و هو يتلمظ الثمالة في كوبه المسموم، و حزمت - يثرب - الثلاثة المطهرين، فصارت ضلوع الحزن خمسة يلامس بعهضا بعضا في مردات الحنين...

يا لك - يثرب - و الحزن يغرقك الآن في عمق التأمل، و قد صمت شيخ من أبنائك الميامين المعمرين اسمه جابر بن عبدالله الأنصاري، بعد أن تفوه - طويلا طويلا - بحب الرسول. ها هو اليوم يصمت بعد أن زرع الأشواق كلها في لب الشبيه بجده، حتي يتقن العلم الصغير، و يبني به دوحة العلم الكبير...



[ صفحه 107]



ان الأمة جمعاء يا جابر تدرك أنك حملت وصية و عرفت كيف تزرعها في الأذن الذكية و الوفية... فكيف ليثرب - و قد مارست روعة الأحزان - و هي الثقيلة عندما تكون شقا من قضية، أن لا تبكيك و أنت منها العريق في ادراج الرسالة.



[ صفحه 108]