بازگشت

العلم الكبير و العلم الصغير


(1)

منذ أكثر من سنتين و الإمام الصغير في رفقة الشيخ الكبير، يجالسه، و يتذاكر العلم و الشرح بشغف و اشتياق، ولكن اشتياقه - في الجلسات الأخيرة - راح يسوح به الي اصغاءات يغشاها كثير من ذهول، و كان بدوره - هذا الذهول - يأسر الشيخ فيضاعف الجهد من تظهير الصور. انها الجلسة الأخيرة - بالتمام - و قد أذهلتنا أيضا، تمتمتها شفتاه المشتاقتان. و لثمتا الصمت.

و منذ هذه اللحظة الكبيرة تلبس الذهول وجه امامنا الصغير، علي أن لا يفارقه كل العمر. لقد كان هذا الذهول - في المبتدأ - نوعا من التبصر في صدق القضايا الكبيرة تدعو الإمام الي تفهمها و الغوص في مخارجها المتشابكة الخطوط، و ها هو الآن - هذا الذهول - يمزجه الفتي بحزن يحرك الدمع حتي يغزو المآقي، و هو كأنه الحزن ذاته، يصف الإمام الصغير مع الباكين في يثرب قرب أبيه زين العابدين، و لما تنشف بعد عيناه علي الشهيد العظيم أبيه الحسين... و ها هو - هذا الذهول الأصيل - يتدرج و يتدرج، حتي يستحيل الي مهابة مطبوعة بوقار... ان العلم الذي دعاه جابر الي أن يفيضه علي المجتمع، هو الذي سيكون ألوان هاتيك المهابة، و عمق ذاك الوقار.



[ صفحه 109]



(2)

ولكن الإمام الفتي، و ان تصورناه - تجاه فقدانه الشيخ الشبعان من رفقة جده الرسول، غارقا في حزن لا يجوز أن يصمت... الا أن حزنه هذا كان في عكس ما نتصور: فهو لديه - الآن - ذهول عميق، تأبي النفس الا أن تنغمر به، كأنه الفرح، تنتعش به الذات في تجلياتها الصادقة و الصافية. ان هذه التجليات بالذات، هي التي نقلت الشيخ. الي ذهن الفتي، و انسكبت فيه - به - عندما تكلم لا عندما صمت... نقلته روحا و لا بدنا... نقلته أريج الزهر لا ورقه... نقلته حركة لا همودا... نقلته ضراما لا رمادا... نقلته اتصالا بالرسول لا انفصالا... نقلته انفتاحا بالرسالة لا انكبابا في الجهالة... نقلته علما صغيرا يزهي النفس، ثم علما كبيرا يزهي الأمة بالمعارف و المطارف، لا بغاء يحقر الذات، و يطيل عمر الذئب و الضب، و الخفاش في مجتمع الانسان.

بهي هو جابر في ذهن فتاه النجيب... لقد وصله بجده الرسول وصلة حياة تنعش القلب، و العقل، و كل خلايا النفس، و كل طويات السريرة... فحرام نعتبر الشفة التي تكلمت: ماتت اذ صمتت، فهي حية بما نبست، و ذلك معناه: لغو وجود كلمة الموت في قاموس الحياة... أما الشفة - و لم تنقشها كلمة - فهي التربة المعقمة، فلا الموت تعرف، و لا الحياة تطالها برشة من اكسيرها المحيي.

علي مدي بضع و عشرين سنة - في ما بعد - كمرحلة اعدادية سبقت تسلم الإمام مسؤولياته المعنية له في فسحة العمر، راح الإمام يمضغ كل حرف من حروف الكلمة التي صبها الشيخ الصامد الآن في خلية الذهن، علي أن يركز كل ما يشتق منها في خلية الضمائر، جنبا الي جنب مع كل المجتنيات المنبثقة منها: علما، و فنا و اداء، و فيض أرخيات. فالمضمار



[ صفحه 110]



الطويل في حياة الأمة، و مجالات الاختيار، هي التي تعين حجم القصعة المسكوبة فيها وجبات الطعام، و لن يلونها - بالخير - رغيفا شهيا، الا العلم الآتي من مناجم الروح، كأنه الرشد المشطور من لمسات الخمائر، أو كأنه تفجير الحق تحمله الآيات المولعات بهمسات الضمائر.

كل ما قاله الشيخ المالي ء فسحة البال، مضمخا بضمير الرسول ينظم القوالب لمحاصيل الغد، كان هم الفتي في التحليل، و التعليل، و توسيع الردهات لمدي الاستيعاب... لن يكون الزمان، ان لم نلقحه بأنباض المكان الخافق بروح الانسان.

(4)

لقد كان كل ما قاله الشيخ في مستوي الهمس، لا يفسر المعاني، بل اليها يشير، فشأنه كالعناوين يلقي الواحد منها صغيرا في صدر المقال، يحمل الاشارة الملغزة، و علي المقال مهمة التفسير، و مشقة التطويل... من هنا كان الفتي يتلقف الاشارات، من دون أن يرهق صاحبه المسن بشرح مستفيض، مكتفيا بها - ما أمكن - لأن الكشف المطلوب عن حياة النبي، و عن كل المرامي المرصودة في مضامين الرسالة، لا يكفيه عمر، و لا دهر، حتي يتم شرحه و استيعابه... ان المجالات الفسيحة في مجتمع الانسان، هي التي تستعين بالتحقيقات الرخية، ترجحها حقا، و خيرا، و أضاميم من جمال - تنبهات العقل، و تيقظات النفس، و كل الأحاسيس الباطنية تزرعها الحياة في عمق الطوايا... انها كلها هي المكتشفة، كلما امتد أمام المشاة طول الطريق، و هي التي تتوضح فيها البينات: بأن الرسالة التي انتشي بها نبي المسلمين، هي من الحياة بنت الحياة، و هي بنت الظلال المفيئة، يطول بها الوروف بقدر ما يطول بها الخطو فوق الممرات.



[ صفحه 111]



ان الفتي الذي سمي - قبل أن تلمح عينه النور بعشرات السنين - بالباقر، هو من التيقظ الفكري و الروحي، في سوية مرموقة، جعلته، يحاور الشيخ الوقور، مكتفيا منه بالاشارات النائمة في حروف العناوين، علي أن يأخذها - مع الوقت الطويل - بالدرس و التنقيب... سيكون الغد كريما جدا، بتفسيح الهنيهات، يدخل فيها العلم - بخطواته المضيئة - ينورها رويدا رويدا، حتي تستفيق - في لواعجها - مهامس الآيات.

(5)

العلم الكبير و العلم الصغير... و أدرك الإمام الصغير أن العنوان الملفوف بضلعين هو ذاته الوصية. يحملها اليه - من جده الرسول - مبلغ أداها ثم انطوي الي الحق الرفيع...

يا للعنوان.. ما أوسعه في فسحة المضامين، و ما أروعه صغيرا كحبة الحنظل في اجاصة مر الصحاري، تعانقها الرمول المنداة بالأشواق، و إذا بها - مع كل صباح شهي الفجر - تتمدد جذورا، و تتماشق ساقا، و تتفرع أغصانا، و انساما، وافياء، و أفنانا، و أطيابا غنية.

انه العلم الصغير، مجبيا من ضلوع المعرفة - يتناوله الفرد في المجتمع - و يوسع به خلايا ذهنه و جيوب روحه، و آفاق عزمة في التصعيد و الادراك، ليكون له قسط في الجلوس بين الملتمين حول المائدة التي تولمها الحياة لأبنائها الأحياء.

أما العلم الكبير فهو دائرة أخري تنمو و تتوسع بالأفراد المرتادين حياض العلم، فيزدان به المجتمع، و يصلب عوده، و تبهو مداركه، و تصفو أحلامه، و تتوضح تحقيقاته، و آماله، و أمانيه الكبار.

العلم الصغير هو زينة الفرد في طاقاته المحدودة - انه ثقافته الخاصة علي قدر معين - قد يوسعها الاستيعاب و يبرز بها الي نوع من عبقرية،



[ صفحه 112]



ولكنها تبقي في نطاقها الفردي محصورة في مميزاتها الفذة من دون أن تبلغ الوزن الواصل الي حدود المطلق.

أما العلم الكبير فهو ذلك المؤلف من كل طاقات الأفراد الذين يحتويهم المجتمع عاديين و متفوقين علي السواء، ليكون له، من التفافهم في دائرة الحوض، قوة محزومة من ضلوع المعرفة التي هي شمول العلم الوارد من جميع فروع الاختصاصات التي لا يتمكن من احتوائها الفرد، مهما توافرت و تضافرت طاقاته، بينما يكون المجتمع هو المنيع بمجموع أفراده، و هو المتمكن من مثل هذا الاحتواء المعزز بنوع من الشمول.

أولا و أخرا هو المجتمع في لوالب الحركة و عمليات التحريض: فاذا تشدد به العزم و تحركت فيه بوادر اليقظات، فانه الي مسيرة ناشطة تخلصه من شلل الركود، و تدفعه الي مجالات التنقيب و الاستنارة، أما التحقيق فزيادة تنمو علي مهل في عدد الأفراد الموفورة لهم السبل السعيدة... بقدر ما يزداد عدد المثقفين تزداد - بالمقابل - مناعة المجتمع بمداركه الرخية.

هكذا يتعزز العلم الصغير، ليتوسع - بدوره - العلم الكبير. أما العلم الصغير فطاقات منثورة، و أما العلم الكبير فوحدة مجموعة في وحدة الاطار. أما وحدة الاطار فهي الحق النابت من واقعه الأصيل، من حقيقة المجتمع، من سعيه الصادق، و الصريح، من روعة الحق الذي هو علم وسيع، و معرفة مضيئة، و كشف حثيث و أمين عن جوهر الحياة في لب الانسان تصدق به مجتمعاته فوق رحاب الأرض.

و العلم الصغير منوعات متعددة الاختصاصات و ملونة المواهب، يتطلبها المجتمع و يوزعها علي مناكب الأفراد، و الموزعين فوق أرجائه، حتي تتسدد من مجموعهم كل حاجاته و جميع أغراضه... أما المران و المراس، و الملازمات الوفيرة، فهي التي يكسبها الفن ثقافة عاشقة تميزها بالخبرة الأنيقة المتمكنة من الصدق المصيب. لكل فرد في المجتمع جناح



[ صفحه 113]



خاص يعمل فيه بنوع من خيط و مكوك يكمل بهما - بين يديه - توضيب النسيج، أما النسيج فهو القميص الذي سليبث يرتديه المجتمع علي أمل أنه سيزيد - مع طالع الأيام - متانة و زهوا.

الحاكم بدوره هو فرد بيده خيط مبروم علي مغزل، و أمام صدره نول يلعب بين سداه و لحمته مكوك يشهد للحاكم بأنه بارع و رشيق بتمريره بين تشابك الخيطان... و الا فان المجتمع هو الخائب بارتدائه قميصا لا يستر عريا...

انها الحتميات تقول: لن يكون علم كبير ان لم يجمع أنواله علم صغير صادق. و لن يكون كذلك علم صغير ناجز، ان لم يمهد له المجتمع المركز، بسط الشوق، و التوق، و يؤججها بلواعج النفس و يقظات الضمير...

(6)

لقد كانت الوصية صغيرة مقتضبة، و في منتهي البساطة، لقد سكبها حاملها الشيخ جابر في اذن حفيد الرسول، بهذا المعني:

(أنت شبيه بجدك يا سليل النبوة - فهو يقرئك السلام.

و يسميك بالباقر - فقم بمهمة تفجير العلوم حتي تستقيم لأمة جدك النبي طوالع الأيام).

لم تكن الوصية بأوسع من هذه الاشارات، ولكن الإمام الصغير راح الي دوحة نفسه يستفسرها عن تراكيب الاشارات ذاتها التي كان الالهام يستمطرها علي الرسول من مجادلها البعيدة الأغوار، يسوقها الفن الي بيادر الفهم حتي تتناولها المدارك و تمضغها علي مهل فتنهل من أزبادها متطلبات الأيام.

لقد أدرك الإمام الصغير، بعقله المشع و يقينه المتبصر، و بنوع



[ صفحه 114]



خاص، بتنقيبه الملح عن الحروف كيف ترقص بها المعاني، من لون الي لون، كلما تغير بها رصف الاشارة. لقد لاحظ الإمام الصغير أن جده الرسول هو - وحده - أبرع من يصوغ اشارة، و أن كل آية من آيات كتابه هي من ذات الصياغة، و من أروع ما تتجلي به اشاراته في سكبها المشرع، انها تكتسب معني جديدا و لونا جديدا من اللحظة ذاتها التي تطرح - هي - فيها... انها للانسان، و في كل جيل من أجياله الصاعدة، تفسر حاجاته، و تتلون بها كما يتلون الضوء بما تصطبغ به زجاجة المصباح.

ما أخذ الإمام الصغير الوصية الا و اعتبرها اشارة تحمل ألغازها و أبعاد مراميها، و لقد أدرك مليا أن الوصية الي احتكت بلبه، هي من نوع الآيات التي تتدرج بها ميادين السور. و بعد التبصر و الاصغاء الي تأودات الحروف في ملامح الأبعاد، توضح له أن الأمة التي اهتاجت بها الأشواق الي كتاب تقرأ فيه كل ما يعلمها كيف تمشي خطوات سليمة فوق المفارق في الدروب هي التي من الله عليها بالكتاب، و ها هو بين يديها - هذا الكتاب - و هو ملي ء بالاشارات الناطقة بالآيات، و ما عليها الا أن تتعلم القراءة حتي تشع في عينيها أضواء حميمة تنقلها من غيهب الجهل الي بهجات البصيرة.

(7)

ما علي الأمة الا أن تتعلم... يا للوصية في حروفها الصغيرة و في بساطتها المنيرة... كيف تطرح الأغمار علي البيادر، و تدعو الأمة كلها الي المفتوت من خيرات السنابل...

ان الأمة كلها هي المدعوة الي الغرف الثمين، بكل ما فيها من واحات ضئيلة و حرات ثقيلة، بكل ما فيها من قبائل مشرورة، يشتتها التفتيش عن المراعي فلا تجدها الا في الأحقاف هزيلة يابسة... بكل ما



[ صفحه 115]



فيها من مدن تظن أنها في مظلة من عمران، بينما هي في جاهلية لا تعرف كيف تصل حرفا بحرف من حروف الهجاء حتي تؤلف الجملة المفيدة... مكة وحدها، في عمرها القديم و شوقها المقهور، حاولت أن تؤلف جملة مقروءة، فبنت الكعبة و كستها بمئات من الأوثان. ولو لم يعلمها نبي من صلبها أين عليها أن تضع الحجر الأسود في مكان الاشارة الرامزة الي هالة التوحيد، لبقيت حتي الآن - ربما - ساجدة تحت أقدام صنمية...

ولكن النبي العظيم حطم أمام مكة و أمام يثرب، و أمام القبائل كلها المشرورة فوق مساحات الجزيرة، كل الحجارات المنحوتة بازميل أعور، و نجي الأمة كلها من الاشارات السقيمة التي من لون الأسود العنسي. و ها هو الآن يوصي واحدا من أحفاده بأن يحدب علي الأمة و يعلمها القراءات الوسيعة، لأن القراءات - وحدها - تنجيها من الجهالات و الوثنيات، و المجاعات، و من الموت البطي ء، و من الذل الذي يحنط لروح بالمهانات.

لقد سبق للشيح جابر أن لمح أمام الإمام الصغير عن قصد جده الرسول من احاطة الأمة بعلم وسيع لا بد منه في ضبط مسيراتها في خضم الوجود، و هو الذي سيخلصها من أسباب التردي بقدر ما تنهل من موارده في يقظاتها المتعاقبة.

أما العلم الوسيع فليس أبجدية واحدة، بل انه عدة أبجديات، سيكون له أن يبتدي ء بوصلة حرف بحرف... انه ساعتذ الأبجدية البسيطة، يعلم كل فرد من أفراد الأمة كتابة اسمه الذاتي، مقرونا باسم أبيه، و اسم أمه، و اسم القبيلة التي تحسبه راعيا من رعيان نعاجها، أو فارسا من فرسانها الذين يذودون عن الحوض.

ستبقي الأبجدية هذه هزيلة جدا، الي أن تعي الأمة أن الفرد فيها هو



[ صفحه 116]



أكثر من رقم و أكثر من و شم يدقه شيخ القبيلة علي كل زند من زنود أفراده العبدان...

و هو أكثر من اسم يتباهي به بطل كعنترة، و في كفه رمح طويل السنان...

عندما تعي الأمة أنها ليست الا مجموعة أفراد، و أن كل فرد فيها هو طاقة من طاقاتها الفاعلات، فساعتئذ يعززها الادراك أن مناعتها هي في كل شؤونها الحياتية علي الاطلاق، و في كل طموحاتها الي كل تحقيق و كل رجاء، و لن يكون لها منها منال متكامل الا بتحقيق قيمة الفرد، و تعزيزه طاقة مترابطة بكل طاقاتها المتشابكة... فكل فرد فيها هو الأمة ذاتها.

أليست الأمة - في تعريفها الكامل و الشامل - هي النساج و الحداد و الصانع؟ و المفكر و الفنان و المبدع، و الزارع و الحاصد و الفران؟ و حامل المعول و حامل المسطرة و حامل القلم؟ و السائس و المخطط و المعلم؟ أليست الأمة كلها فصائل فصائل، أو مدارج مدارج، في هرمها المتنامي من بسطات الأساس حتي النقطة المتناهية في عب السحاب؟ أليس لكل فرد في الأمة محل في شدة المسند، كما لكل حصاة في بسطة المدماك في الهرم المتعالي متكأ من صلابة يصمد بها خلود البناء؟.

من هنا يكون علي الأمة الواعية أن تمهد لرفع سوية الفرد و تعزيز طاقاته الفهمية و الادراكية، و لن يكون لها الا التماس العلم يوسع لها آفاق المعرفة بأبجدياته المنوعة الفروع، و قراءاته المتعددة الأصوات. فالعلم الذي تحتاجه الأمة ليس هو في أبجديته البسيطة التي تعلمنا قراءة أسمائنا، و قراءة تباهينا بمسلسل الأنساب، انما هو في أبجدياته المتعددة و المتفرعة و المتطورة تطورا مدهشا، مع كل لحظة من لحظات العمر؛ فالأمة - في محض وجودها - هي تسلسل معارف و مهارات، في الزراعة و الصناعة و كل مجالات الاقتصاد، و الفرد فيها هو الشبكة المترابطة بكل ما لها من أغراض، و لن تنتهي المهارات، و كذلك ستتزايد الأغراض، و سيطورها



[ صفحه 117]



الفن الي كل جديد تفرضه الاستقصاءات و عزيمة الاختبارات... من هنا أن العلم الصغير الذي تحققه الثقافات الفردية ستتوزع منشوراته علي كل مهنة من المهن التي يحتاجها مجموع الأمة في يمومها الحاضر و في يومها الآتي... و لن تكون المهن الا وسيعة الأرجاء... فالزراعة - مثلا - هي المنوعة في الأرض مع تنوع الفصول و المناخات، و تنوع الأساليب و المهارات و النشاطات و المختبرات... و كذلك ستكون الصناعات و التجارات، و كل مهمات تعزيز الاقتصاد، بالاضافة الي الشؤون العظيمة الأخري التي هي جوهر الأمة و مداها الكبير في الوجود... إنها قضاياها الفكرية و الروحية و الكشفية عن الحقائق التي تربطها الحياة بوجود الانسان، و لا بد من التدرج الي استيضاحها في حقيقة الرضوخ لمن هو مصدر الحق و مصدر المثل الكريمة و التقية التي لا ينهض كريما و عزيزا الا بها مطلق مجتمع من مجتمعات الانسان.

كل ما ذكر من هذه الأغراض سيكون مجزءا و موزعا منها علي مجموعة أفراد الأمة، و سيكون الجزء موازيا لطاقة كل واحد بمفرده، و اذ ما يبرع الفرد بانجازه يصبح كل ثقافته الخاصة... ستجمع الأمة في سجلاتها الصادقة مجموعة البارعين في كافة حقولها المتحركة بجميع أفرادها المتخصصين و المثقفين بالعلم الصغير الشامل التنويع - و علي مهل أنيق و رتيب - ستمزج الأمة مجهوداتهم المختارة، و تستخرج منها عجينة جديدة تخبزها رغيفا يسمن بها علمها الكبير.

غدا... و ليس اليوم... راح الإمام الصغير يتابع تخيلاته و تأملاته و تحليلاته، و يستخرج منها المعاني و الصور... غدا - و ليس اليوم - يكون للأمة تمتع بعلم ينمو صغيرا ثم يكبر رويدا رويدا الي أن يصبح احتراما تزين به سجلاتها التي لا تزال ضائعة في الردهات العتيقة. لن يكون لها - بين ليلة و ضحاها - اتقان الكتابات، و القراءات، و تنقيح السجلات و تدبيجها بالرسوم... ان ذلك رهن بتخطيط فيه كثير من أضواء



[ صفحه 118]



السموات... جدي - وحده - أدرك ما تأخرت الأجيال عن ادراكه في قديمها الصامت... و سيكون لي، من تنفيذ وصية جدي، بداية يركز عليها الغد آماله المعهودة... أصبحت أدرك ما هو موكول الي كامام مسؤول عن رسالة و عن رعية... و أصبحت أدرك ما معني تفجير العلم حتي يتسهل فهم الرسالة و تنظيم أمور الأمة التي هي مجموع الرعية... لن يكون لي أن أفجر البحر، بل أن أسهل الوصول الي شطأنه السخية، فأنا طاقة صغيرة من طاقات الأمة، و سأوسع دلوي بقدر ما أوسع عزمي حتي يكون غرفي من العباب أغزر... أما الدلاء فعلي عن أفتش عنها و أوفرها لكل عزوم يناديه ارتفاع الموج ... أليس هكذا يبدأ تحقيق العلم الصغير بتوزيع أليم في أفواه القرب؟ و هي التي سيحترزها خزان الأمة و يغتني بها في اطاره الأكبر؟.

اثناهما - العلم الصغير و العلم الكبير - يغذيهما شط واحد، و غرف من بحر واحد، هو بحر العلم الذي هو معرفة منوعة الألوان و الأزباد، ولكنها، في النتيجة الصامدة، وحدة في تأليفها ثقافات الأفراد... و هكذا فان الأمة هي مجموعة هذه الثقافات التي تعزز بها ثقافتها الشاملة. و من هنا يحتاج العلم الصغير الي التنوع الذي يبدو و كأنه لا ينتهي...

فالزراعة، و الصناعة، و التجارة، و علوم الاقتصاد، و الحساب، و الهندسة، و كل العلوم الأخري التي يترابط بعضها ببعض و يشتق منها علم الجغرافية، و التاريخ، و التعدين، و التنظيم، و ادارات الحكم، و ضبط السياسة، و معالجة الفكر بالتأليف و البحث و التحقيقات الفلسفية... انها كلها المواد الكثيرة المهمات، تحتاجها كلها الأمة في تنظيم معاولها، و ترتيب أمورها... و هي التي سيتناولها العلم الصغير فيتثقف بها و تغتني بمجموعها الأمة في علمها الكبير.

و تابع الإمام الصغير نجاواه: لقد شرح لي جدي بلسان الشيخ جابر، كيف أفتش عن العلوم و موادها في كل بقعة من البقاع التي تأصلت



[ صفحه 119]



ببمارستها، و هكذا سأنهج. فالأمة بحاجة ملحة الي علوم الفيزيا و معادلات الكيميا و أرقام الحساب، و الي تفهم التاريخ، و أنواع الجغرافيات، و تحديد المساحات و خطوط الهندسات، و الي اكتشاف المعادن المدفونة في جوف الأرض، و الي فلسفة و فقه و طب، و كلها توفر للأمة صحة العقل و صحة القلب و صحة الروح، و هي جميعها ثقافات توسع العلم الصغير في اطارات العلم الكبير.

أصبحت الآن أعلم أن الغد الكبير و الوسيع هو الذي يفتح المصاريع علي الأبهاء، و هو الذي يصحح الخطوط و يخففها من عقد الأخطاء...

فالمعارف كلها هي محاولات يحركها اليقين المستعين بالممارسات المؤمنة يصدق العزم المزروع في عمق النفس التي هي جوهر اللب في الانسان، و التي هي سر من أسرار الطويلة .

لقد قلت و لقد عنيت: ان الغد هو الذي يأتي و يحقق الأمنيات، لا اليوم الذي خرست نبضاته... سأستعين بالجامعة التي بسط مقاعدها جدي الإمام علي في ردهات المسجد، و قد نقشت حيطانه لجدي الرسول مهجة الأنصار... سأفتح في كل ردهة نافذة صغيرة أضيئها بمادة علمية ولو هي الآن بنور شمعة تنوس بها الضآلة... ولكن الغد الآتي بالشوق الملح سيضاعف جدلات الفتائل، لتأخذ من أعطيات الضوء ما ينير عتمات يثرب و يبقيها دائما قاعدة منورة... أتراها تصمت ثرثرات الجهل و تترك للجامعة مهلا ينمو بها الغد الطويل الذي ستستنير به الأمة يتوسيع معارفها و مداركها و ممارساتها المشتاقة؟.

(9)

صدقا نقول: لقد عزم الإمام الصغير علي تجهيز العمل الكبير و تنفيذ الوصية بكل ما تتستر به من بعد و عمق و الحاح.



[ صفحه 120]



لقد أدرك أنه فرد، و أنه طاقة محدودة لا يملك بحر العلم حتي يفجره في اللحظات المريدة... ولكنه سيبدأ بتسهيل السبل الي ارتياده من شطأنه تاركا للأجيال توسيع مجالاته و تنظيم مجانيه.

صحيح أنه اعتبر ذاته طاقة فردية محدودة، ولكن ارادته و بنيته الفكرية، و الروحية، و الشبهية بجده الرسول، أبتا عليه الا و لوجا عميقا يطل به الي كل ما هو موكول اليه... و هكذا فانه لم يعالج فرعا من الفروع العلمية التي راح يفتش عن مدارجها، حتي يوسع بها ردهات الجامعة تحت سقوف المسجد، الا ونال منها رذاذا تجلي في طلعته - مع الأيام - مهابة ملونة بوقار تماسكت به امامته العليمة، و جعلته اطلالة من فوق منبر، تحلق، حوله أربعة آلاف من الطلاب المريدين العلم الصغير الذي سيصير كبيرا... إذا الأمة عرفت كيف تصنع الكثير من مثل هذه القوارير، و تخزن العطر فيها، فيطيب لها الغد الشهي، أو فنلقل: ذلك الغد الأكبر.

علي مثل هذا النوع من الاستيعاب المشهي، تضافرت معارف امامنا الصغير، علي طول المدة التي مرت عليه في ظل الإمام الكبير زين العابدين، حتي إذا ما استدعاه أبوه لاستلام زمام الامامة - لأن الارادة المرقومة علي اللوح العريض هي الملباة بالرضوخ المؤمن - توجه امامنا المشدود بالعزم السديد الي سجادات أبيه المنقوشة بركبتيه المطهرتين، و بسط عليها كل ما جناه من علم و قصد يتم بهما تنفيذ وصية ترتفع بها سوية أمة لم يردها نبيها البصير الا كبيرة و جليلة و هادية.

لقد بلغت معارفه - في كثير من الفروع العلمية التي توسعت بها ردهات المسجد في يثرب درجة تؤهله لأن يكون موسوعة... و لقد رأيناه - فعلا - مريدا و لجوجا في التقصي عن كل ما يزيده علما و فهما و اطلاعا، و هو في حوار لا يتعب مع الشيخ الوقور جابر، يستفهمه عن كل ما تلقنه



[ صفحه 121]



من رفقة النبي الكريم و العليم... و لقد نقل اليه الشيخ الغيور كل ملامح جده، و كل مقاصد الرسالة، و كل ما تتبطن به آيات النبوة التي فيها كل حق و كل خير و كل علم و كمال... و شرح له المقاصد و النهوج المقدمة لفلاح الأمة، مع كل ارتباطاتها بتاريخها القديم، و حاضرها الضائع عن حقيقة الفهم، و مستقبلها المحتاج الي علم ينور لها الدروب... و لقد لمح له عن معني الأمة، و معني الرسالة، و معني الامامة، و معني السياسات الجاهلة التي تغرق الأمة كلها في المزيد من النكد.

و لقد مررنا بفصل سابق في هذا الكتاب عنوانه: خطوط عريضة - و كان لا بد من الاحاطة بها بعض الاحاطة في بسطة التعريف عن النبي العظيم و عن مقاصده القريبة و البعيدة في تقديم الرسالة مكفكفة بفيض من رموز و اشارات تجلي بها كل حرف من حروف آيات الكتاب... و كان لا بد من تعزيز أهمية البحوث بالتطرق الي تحليل و تعليل يقدمها المنطق حول النهوج المرسومة لصيانة رسالة لا بد من ترسيخها في النفوس حتي تصبح فاعلة... ان النهوج هي التي كانت محللة و معللة، و كانت بمجموعها متفرعة من القصعة الكبري التي هي الأمة، و التي هي بمعني الأمومة المحتاجة الي نظام امامي ممتن بالدرس و الفهم و المران المتزن بالرسالة، حتي إذا ما يمر جيلان أو ثلاثة علي الأكثر، تجد الأمة ذاتها في انضباط منتظر، لا تضيع عنه و لا تتعثر.

انها ذاتها هذه البحوث التي تفرد بها الفصل المشار اليه في هذا الكتاب، قد آحرزها باكرا - في علمه و اطلاعه - امامنا المميز - و بشكل معمق و موسع... و انه لمن الحظ الميمون لهذا الكتاب أنه - بدوره - قد استوحي معانيها من سيرة الإمام بالذات، و هو جالس بين يدي الشيخ الأنصاري، يقرأ في عينيه حكايا جده الرسول ملفوفة بمطارف الالهام.



[ صفحه 123]



الباقر

بعد أن سجد الإمام زين العابدين آخر سجدة فوق التراب - و غاب - تسلم الإمام الصغير قيادة السفينة.

انه بحار أنيق عزيز السارية.

وجه السفينة - وحده - في عرض.

العباب

ان المسجد في يثرب

- و هو في العالم الاسلامي كله -

أول محراب

أصبح أول جامعة علمية باسم أهل البيت،

فجر فيها كل طاقاته الموهوبة.

امام عباب

جلله بمها بات العلم.

نبي المسلمين،

و بشفتيه الطاهرتين

هجأ حروف اسمه:

الباقر



[ صفحه 125]