بازگشت

سجادات الإمام


بالحقيقة - لم يصل الإمام الي استلام مسؤولياته الامامية و هو فرد عادي، ان نطاقه أوسع بكثير من ذلك، فهو ممثل أمة و موجه أجيال، و هو بشكل مميز - منتدب للقيام بدور ريادي حصره في دائرة جليلة لا يتمكن من ملئها الا الموهوبون الطليعيون.

باكرا جدا باشر الإمام بلملمة طاقاته الذاتية، و سريعا ما أدرك ثقل ما هو منتدب اليه:

انه - أولا - امام، بكل ما للامامة من معاني محصورة بها منذ الأساس. ولكن الامامة الآن، بعد أن مر عليها خمسة عهود، ابتداء بجده علي، و وصولا اليه بالتمام، هي بأمس الحاجة الي تدبر جديد، تلمس به حقيقتها المعهودة...

صحيح أن جوهر الامامة ما تغير و لن يتغير: فهو غاية مرسومة لضبط أمور الأمة في عب الرسالة التي تضبط - بدورها - كل شؤون الأمة... ولكن أمور الأمة لا يتم ضبطها ما لم تتدخل الامامة بتخليص عين الأمة من غشاوات الغباء، و تلقينها فن القراءة...

- (انه التدبر الجديد الذي حمله الشيخ جابر من فم الرسول الي حفيده الباقر، ليكون اماما مهتما بتعليم الأمة، حتي تحظي الامامة بخطوطها العريضة).



[ صفحه 126]



و انه - ثانيا - ممثل أمة و موجه أجيال... و ممثل الأمة هو ذاته الامتداد من مكفكف الأمة بالرسالة و آيات الكتاب، الي خطوط النخبة الموكول اليها الاصغاء الي تمتمات الحروف و قراءة الاشارات... أما موجه الأجيال، فهو المومأ اليه بسبابة النبي الرائية، بأن يوضح للأمة خطوطها العريضة، و ليس لها من الميسور - الا العلم يبتدي ء صغيرا، و لا يكبر الا بعد أن تلتهب - باحتوائه - خطوات السنين... انه للأمة - كبيرا فاعلا - كلما تقدمت به الأجيال، و استضاءت به المنجزات العريقة.

- و هذا أيضا هو خط التدبر الجديد، و علي الامامة أن تحصر كل جهد الي تحقيق العلم و تركيز قواعده... فلا سياسة، و لا ادارة، و لا أي نهج يصيب مغانم الأمة، ما لم تتعلم الأمة الأمة قراءات صحيحة تقرأ فيها: عافيتها، و نموها، و كل الحقائق التي ترتفع بها الي سوية انسانية مرموقة.

و حصر الإمام همه بالتجرد لمهمة نشر العلم، باقتناعه التام بأنه وحده الموصول الأمة - رويدا رويدا - الي سبلها المرقومة في سجل الهدي، و قاموس الحضارة... و ان الويل و الخيبات التي أصابتها في العهود المنصرمة، سبتقي هي اياها، و علي ازدياد، في ظل سياسات أمية و عتيقة، لا تعرف الأمة كيف ترفضها، و لا كيف تجلس من اعوجاجاتها، أكانت أموية - حربية - عفانية رقص بها يزيد منها، أم مروانية - حكمية - هشامية ستنتهي بعبد الملك بن مروان، بعد أن حقن شرايين الحجاج الثقفي بدماء مئة و عشرين ألف قتيل... أم ستكون - كما تبدو الاشارات - عباسية سيهول بفداحتها السفاح و منصور الدوانيقي...

و انصب الإمام - بعد أن تسلم مقاليد الامامة - علي تحصينها و تزويدها بكل ما يضبطها في الخط الريادي، تاركا للسياسيين التقليديين خطوطهم البائسة، يتلاعبون بها علي هواهم، - مطمئنين - من دون أن



[ صفحه 127]



يكون من الإمام ألا تدخل ناعم و وقور، يرجوهم به أن لا يزينوا أحكامهم الا بالعدل الرسالي.

علي مدي ما يقارب أربعة عقود، كانت ردهات المسجد في يثرب، تصغي - لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية - الي علم جديد اسمه علم الجغرافيا، نقب عنه الإمام الذي هو الآن باسم الباقر، لقد وجد له حملة أخذوا جزء منه في مصر مترجما عن الكتب السريانية، بواسطة الجغرافيا البطليموسية، و وجد أيضا من أخذ في مصرعن طريق الأقباط علوم الفيزياء و الفلسفة الاغريقية، و علم الهيئة، و علم الكيمياء؛ و لقد وسع أيضا فروع جامعته و مباحثها، مما جعل الوالي عمر بن عبد العزيز يقدر هذه الجهود الكبيرة التي يقوم بها الامام، و يقوم بتوسيع رقعة الجامعة في المسجد بحيث بلغت أربعين ألف ذراع.

الامام وحده كان يقوم بتدريس و شرج لكل العلوم القديمة و الحديثة فأدخلها ردهات المسجد، بعد أن تعمق في قوانينها و مؤدياتها، و لم يفته. أن يدرس التاريخ، و الهندسة، و الحساب، و الطب و علوم الكيمياء التي سيطورها ابنه الإمام الصادق و سيقرع أبواب المعادلات فيها، مع تلميذه العظيم النابغة جابر بن حيان، علي أمل أن يتحقق الطموح و تنجح المحاولة برفع قيمة المعادن الرخيصة الي مصاف الذهب... ان القيمة العلمية تبقي - وحدها - أعز ما يحصل عليه العلماء في مجتمع الانسان، و هي الأبهي من لموع الذهب.

نعود نقول جازمين: ان السجادات التي ورثها الإمام الباقر عن أبيه الإمام زين العابدين، هي التي استمرت تزدان بمعادلات الوقار... انها الآن تعكس مهابات العلم علي الوجه الذي أراده النبي سنيا. ان المسجد الذي توسعت ضلوعه، لم يبق مسجدا - فقط - بل أصبح - أيضا - جامعة علمية من الطراز الرفيع.



[ صفحه 128]