بازگشت

جامعة في يثرب


كأني بالجزيرة العربية قد ولدت ولادة جديدة يوم انسحب الطريد الشريد من شعاب مكة تشد به الهجرة الي يثرب.

و كأني بالرجل الثاني تتفتح أزاهير روحه و هو ينام في فراش الهارب في الليل حتي يغطي انسلاله في العتمة التي سينبلج منها نور آخر تستنير به يثرب و يخلد فيه اسمها كالشمس.

عند انبثاق الفجر اكتشف المجرمون المتآمرون علي حياة النبي أن الطريدة هربت من بين أيديهم و اندغمت بعتمة الليل، أما البطل المغطي الانسحاب فهو العلي، و ما شأنهم معه، و علي كتفيه عباءة رثة، مرقوعة بعشر رقع؟.

حمل العلي فواطمه الثلاث و امتطي الصبح و لج به المسير. علي أبواب يثرب تم الالتقاء الكبير، و اندمج القوم بأهلهم من بني النجار، و احتك سلك بسلك، كأن للنور سلكين - إذا يتلامسان - ينبلج الضياء... و هكذا شاء الله أن يحتك نور الوافدين الي يثرب بمعدن الصفاء الهاجع فيها... منذ هذا الحين انغمرت يثرب بالنور و اكتسبت اسم «المدينة المنورة».

أسخي ما تنورت به يثرب كان في التحام حروف الآيات فوق أرضها المطهرة. هكذا انطلق الأنصار منها حاملين نورا و هداية، في حقيقة



[ صفحه 129]



المؤازرة التي اندفقت تحرر الجزيرة كلها من الكسل الرابض في قواعد أصنامها المتربعة في كل زاوية من زوايا كعبتها المتحجرة بالرمز اليابس..

انطلاقا من يثرب تمت حركة الدورة الحياتية - الفكرية - الروحية التي اغتسلت بها كل الجزيرة العربية و التي ستغتسل بها أمم في الأرض، علمتها الرسالة كيف تعلي مئذنة الصلاة و الحمد فوق كل مسجد شبيه بأول مسجد شبعت جدرانه من الصدي المائج من فم الرسول في يثرب.

لقد كان المسجد في يثرب أول جامعة جمعت الناس، لا لتعلمهم - فقط - كيف يسجدون، و كيف يصلون، بل كيف يأكلون - أيضا - و كيف يشربون، و كيف ينامون، و كيف يسيرون، و كيف يفكرون، و كيف ينهجون... ان في القرآن و في آياته المسموعة، كل علم، و كل حق، و كل خير، و كل غاية... فليأخذوا منه ما يستنيرون به، و ليستزيدوا قدر ما يتمكنون و قدر ما يحتاجون... ان في الرموز المطوية فيه آيات أخري مخبآت، تستحث العقل حتي يغوص خلف ما يتخبأ في المبهمات. ان تشغيل العقل بكل ما فيه من طاقات في بنية الانسان، هو من جملة المقاصد البعيدة المنثورة في حبكة القرآن.

تلك هي حصة يثرب من الطريد الوافد اليها، حاملا معه هدية لها من ثقلين بنت بهما أول مسجد تنورت به أرضها، و أول مئذنة ترفعت بها سماؤها، و أول جامعة توسعت فيها مداركها... يا للأساس المدرج علي الأمتنين المتلاصقين في وحدة المنهج.

الكتاب - بكل ما فيه من حق و نور و علم - هو الأمتن الأول، أما الأمتن الثاني - و المشتق منه كما يشتق الشعاع من دائرة القرص - فهو طاقة انسانية معبرة عن حقيقة الجوهر، تطيبت اسلاكها بطبيعة المصدر، فاندمجت به لأنها منه في واقع الانبعاث.

ان أهل البيت هم الثقل الثاني في التصاق الجذر بنواة صاعدة منه،



[ صفحه 130]



واصلة ما اختبأ منها تحت التراب، بما نما منها فوق التراب... لقد كان علي تلك النواة الانسانية النابتة من هجعة النور في أسلاك الطوية... ألحت عليه عين النبي، و انسكبت فيه كما ينسكب الفن في مسطرة المهندسين، لضبط الخطوط في استقامة السطور الطويلة.

علي هو المسطرة المرقمة بالاستقامات السديدة و الهاجعة بين كل حرف و حرف من الحروف المزروعة في حقول الكتاب. علي المسطرة هذه يكون الجهد في ربط المساحات بنوعية المسافات... أما الحقيقة المتوخاة فهي التي ستجدها الأمة في غدها الآتي و قد بناها الحق، و العلم، و حقيقة الرشد، و ألمعية الصواب.

ما خبأ النبي عليا مكانه في الفراش حتي تتم له النجاة، بل حتي تتم للرسالة و الأمة سبل الحياة. لا لعمري، فان في القصة الطريفة لبا تتلقط به نباهة الذات: فانغلال علي في فراش الرسول، معناه اندماج تجسيدي تظهيري لقيمتين جليلتين وحدتهما حركة الروح و انطباعات الحفيظة. ألم يقل النبي بعينيه و شفتيه: علي مني و أنا منه، فمن أحبه فقد أحبني... الهم وال من والاه و عاد من عاداه...

انه النهج النابت من عبقرية الفن، لالقاء الرسالة النابعة من جهود الروح و عمق المعاناة، بين يدي قيادي أصيل مقتدر علي تحمل التبعات. لقد وجد النبي الحريص علي كل حرف من حروف كتابه، أن عليا هو الطاقة الأرجح في كفة الميزان، و عليه - وحده - ترتيب قاعدة الهرم حق تبلغ الأمة غدها الكبير، و تنال حظوتها فوق الأرض بين عنقود الأمم.

علي هو الأساس المطلق، و لن يكون أحد غيره رأس الزاوية، لأنه الفاهم الأول المستجيب، و الممرن الأندر المستطيب، و لن تكون القيادة الفاعلة الا من مثل هذا الجوهر الأصيل... و الا... فان الأمة تنام نومة أهل الكهف حتي يمن عليها الدهر - بعد طول التجارب و زحمة المعاناة -



[ صفحه 131]



بطاقة أخري يكون للأمة فيها المثيل.

و بقي العلي في الخط الجانبي - بعد أن أغمض النبي عينه عن الخط الأمامي و خسر نداؤه رجاء التلبية - و بقيت يثرب في قاعدة التركيز، تصغي الي صوت المعين في صدر الامامة التي ركزها - قبل أن يغفو - عقل النبي.

و بقيت يثرب - أيضا - مدينة منورة، و توسعت بوابة المسجد فيها حتي أضحي المسجد - مع الوقت - جامعة تغص بالطلاب. لقد تولاها الإمام علي في بعض الفترات الهادئة... و غذاها قليلا الإمام الحسن عندما انسحب من الكوفة و هو تعب يطلب النقهة... و صمتت بها الأيام مع الإمام الحسين الذي راح ينقش الدرب - بدمه - بين مكة و مخيمات كربلاء...

أعار الجامعة هذه - كثيرا من الاهتمام - الإمام زين العابدين بعدما حجب حزنه في قلبه علي أبيه الحسين.

ان الإمام الصغير محمد الباقر، هو المتربع الآن فوق الحصير، بين يدي أبيه لامام، ينهل الدروس نهلا شهيا... انه الشبيه بجده الرسول، ورنة صوت الصحابي اليثربي جابر بن عبدالله لاتني تدغدغ مسارب أذنيه بصدي الوصية الجليلة. لا شك أن شوق جده الرسول يدعوه لأن يأخذ العلم من هذه الواحة التي يتعهد أفانينها الآن أبوه الإمام الطاهر السجاد، و يفجره بين يدي الأمة المحتاجة الي العلم المفسر و المدخر، و هو الذي ستذوب من فرط بهائه كل العتمات.



[ صفحه 135]