بازگشت

نظرة عامة


انه خامس عهد من عهود الامامة المشتقة - لغة - من الأم التي هي - بالضبط - الأمة بمعناها الوسيع. لقد سبق لنا في هذا الكتاب ان تتطرقنا الي تلميحات وافية عن هذه المواضيع الكبيرة التي استقطبت كل اهتمامات النبي الكريم، مما حداه الي التبكير في تنسيق القوالب الصائنة مسيرات الأمة في خطوطها الصاعدة الي كل تحقيق يضمن لها المستقبل الزاهر. لقد كانت الرسالة أولي البواكير المستنزلة من سموات الوحي مصبوبة في بوتقات قوالب، أما الامامة فهي المشتقة من ضلوع الحنين الهاجع في لب الرسالة، ليكون زفرة منها تعالج به كل لمسة يهددها بها ذيل عقربي.

انها الأمة - في استغراقات النبي و استلهامات الرسالة - لولاها لما انطلي غار حرائها بأضواء فضائها، و لما انسكبت في حروف الكتاب آيات سمائها. فلتكن الامامة غلاف الرسالة، تصون الأمة في كل خطوة من خطواتها، و توصلها الي المحجات الأمينة المليئة بالقسط و العدل، و نلك هي الهداية تزين مجتمعات الانسان، و تلك هي أهداف الرسالة تملأ الأرض بالنزاهات الجنان.



[ صفحه 136]



سيكون الإمام علي أول عنقود في عريشة الكرمة المرزومة باثنتي عشرة دالية حاليات القطوف، كل دالية تأخذ من ربضات الجذور مساقها الي رواق طيب الشمس، و عفيف الظل، حتي إذا ما انقضي - مستتبا - عهد الامامة، من جيل الي جيل، تكون الأمة كلها في المجالات المرسخة بالمران الموزون بالعلم الوسيع المزين بالايمان، و آيات الشمائل.

تلك هي الامامة في مداها المتنامي، ربط النبي بها أمته رباط الاحتراز، طرفه الأول مشدود بآيات الرسالة واسمه علي، و طرفه الأخير محرر من زوغات العقد و اسمه المهدي، و هو وصول الأمة المفترض الي تكامل اجتماعي متين الثقافة، لا يبقي محتاجا الي من ينهاه عن ارتكاب المنكر، فمرور اثني عشر عهدا ممرسا في الحق، و العلم، و الصدق العفيف، قمين بأن يجعل الأمة المثقفة تعيش المعروف و تجهل ما هو المنكر.

أنا لا أحب أن أقول: لقد خيبت الأمة احتراز النبي، و لم تلبه رأسا في تنفيذ احترازه... فالأمة كلها قد احتضنت نبيها و اعتنقته في امتصاص الرسالة. لقد رأيناها - جموعا جموعا - تمشي وراءه في عيد الغدير المعروف بحجة الوداع، و ان لم يكن لها - في تلك اللحظة - ألا تفهم سليفي بري ء تنادي به بأعلي صوتها: الله أكبر، الله أكبر...

أجل، لم تخيب الأمة نبيها المشغوفة به... و خيبته الفئة القليلة التي لم ترد أن تفلت من يدها مقاليد الحكم، و أساليب ربط القبائل بخيطان الزعامات... فليكن لها أن تري كل اشارات النبي الي عليه المميز، وليكن لها أيضا أن تسمعه يقول: (و ان تولوا عليكم عليا - و لا أراكم فاعلين - تجدوه هاديا مهديا، يأخذ بكم الي الصراط المستقيم) - فانها ستتجاهل، و هي تضمر في سرها: وليكن للامارة شيخها الصديق و لتكتف - بعلي و باثني عشريتها - تلك الامامة.



[ صفحه 137]



تلك حقائق بينات لا يني يسردها التاريخ، يتعلق بها المنطق... أما احتراز النبي الباقي للأمة كلها في حقيقة التسجيل: بأنها لن تدرك شأوا، حتي ولو عاشت عشرات الحقب، ما لم يأخذها العلم الوسيع الي مجالاته الوثيقة، و في ذلك الحين، فقط - يصل بها الوعي المتكامل الي الصراط المستقيم.

لم يصل خط الامامة الي استلام الولاية و لا في أي وقت من الأوقات المرسومة، حتي يمهد للأمة مجالات الوعي المتنامي بها الي الرقي المنشود...

و بقي كل امام مختبئا في خليته الرمزية، تسانده الرعية مساندة مجزوءة، ضمنت له عند القيمين علي الحكم احتراما تفاوتت مقاديره. أما الفئة القليلة فهي بعض المحترفين السياسيين المتزعمين المأخوذين بجمع المغانم، انهم هم ذواتهم في كراسي السيادة، لا يعلمون الأمة الا التمادي بالخضوع، و التلاشي بالخنوع.

لقد اعتصم كل امام من الأئمة الأربعة الذين سبقوا امامنا الباقر، في خلية مقهورة... لقد كانت عهود الثلاثة الأولين بشكل - خاص - كأنها عهد واحد: عهد استشارات، و محاولات، علهم يتمكنون من رأب الصدع، و تحويل الصراع من جادة الي جادة، من جادة الزعامة القبلية العتيقة، و هي المستميتة في سبيل الحصول علي المغانم، عن طريق الوصول الي كرسي الحكم الذهبي اللون، و الشهي الاغراءات، الي جادة الرسالة القويمة بالحق و الهدايات، و التي هي - وحدها - قد حققت أمة، و هي تستردها رويدا رويدا من غياهب الثرثرات...

انه صراع أليم و مميت بين القديم و الجديد، القديم الهائج بعنعناته الزعامية، و جهالاته الأمية، و الجديد الرسالي، بطروحاته الفكرية الروحية،



[ صفحه 138]



و قراءاته التي لم يرد أن يفسر حرفا من حروفها ذلك الحاكم المتزعم المعمي بغباوة التقليد...

ان الأمة بدورها - و هي التي ترزح تحت وطأة الصراع - لم تتعلم بعد كيف تتركب حروف القراءة ... عندما تلتحم تحت عينيها مسلسلات الحروف، تخرج من شفتيها - كلمة بعد كلمة - جملة تتألف منها قولة الحق في تحويل الصراع الي الجادة التي يكون - فيها - حق، و خير، و نبل، و صراط مستقيم.