بازگشت

نجي الرسول


انها فرص سعيدة تلك التي توافرت لإمامنا الصغير يربو في حضن أبيه زين العابدين، و هاتف يقرع أذنيه كأنه ناقوس من ذهب الجنة، يحرك أوتار روحه، و عزائم لبه، و هو يردد في خلده:

- العلم العلم يا حفيد جدك الرسول

خذه الي صنجك، و فجره - يا نجي الفجر - علي الأمة تفجيرا.

فالأمة و الامامة صنوان في المعني الكبير:

طحين راكد ما لم يلتهب بأشواق الخمير.

إنها فرصة سنحت - لا شك - سربلته بالباقر... و قد تكون أيضا بنت معاناة لا تزال حوملة في وجدانه، منذ كان عمره أربع سنين عندما ثقب - بسبابة كفه - بلاس المخيم في كربلاء، و شاهد بعينه المقروحة جده الحسين يعجن الرمل بدمه المفجور!!.

و تعززت الفرصة و اندمجت بايمانه عندما تم له احتكاك خاشع باهر، بشيخه الهاجع في ضميره كما يهجع الفجر خلف القمم الكبيرة... ان الشيخ جابر بن عبدالله الأنصاري، و هو شمعة هادئة النور، لملمت فتيلتها من رفقة النبي و هو يغزل للجزيرة قمصانا جديدة.

لقد اقتنع الإمام و هو برفقة الشيخ جابر، بأن العلم طاقات غزيرة، لا يمكن أن يستوعبه الفرد الا لماما، و هو الي نمو، و تطور، و اتساع، عن



[ صفحه 146]



طريق الاختزان، و التمرس، و المران: فالحاضر يتسع بقرعات الأمس، و كذلك الغد بما احتواه اليوم، ولكنه - ما لم يرتفع موجا - ينطفي ء زبدا، و تيبس دونه سجدة الشطآن.

و لشد ما أدرك أن أمته، و هي أمة أبيه و أجداده الي أجيال عديدة قبل جده الرسول، هي التي تعاني هبوطا فاضحا في حرارات العلم، و ليس لها الا تقاليد قبلية بالية، يستصرخها الزعماء التقليديون الي عنجهيات رثة تثبتهم في دسوت الحكم، و أبواق السياسة... أما الرسالة - و هي الأطروحة الثمينة التي هبطت لتنقذ، و تبدل، و تطور - فانها، و ان قبلت: آية، و تسليما، و دينا، قد جمدت في قوالبها، و استدعيت الي السير في ركاب القافلة التي هي: شيخ، و زعيم، و قبيلة... لا نبوة، و رسالة، و امامة...

أما النبوة، فان السماء قد وهجتها، فليترك لها وهج السماء - أما التوصية بأهل البيت، فلهم يعود قبولها أو رفضها، و لن يكون ذلك قبل أن يغمض الرسول عن الأرض جفنا، و وقتذاك فلا شي ء يضيره... أما الامامة، فما عساها تكون عين الاحتياط في احتكارها الي مدي الترسيخ، و جعلها في عب علي سنادا و ثيرا؟ أليس التجاهل أغنم منها؟.

سبب واحد لا أكثر وجده الإمام الباقر خلف عصيان القوم نبيهم، و خلف تماديهم في أساليب الجفاء أو فلنقل: في أفانين العداء... لقد قسموا الأمة كلها الي خطين متنافسين علي امتلاك الأرض و امتلاك الهواء. فالأرض و السماء هما لبني حرب، و ليستا لبني أبي العلاء... فلينقرض بنو طالب و ينتهي العناء...

أما السبب الواحد الذي أحاط الأمة كلها بهذا البلاء، فهو في غيبة العلم عن الساحة العامة، و في جهل القراءات التي هي سياسات فهيمة و حكيمة و تقية، تعرف الحرف، و الرقم، و ضبط الحساب، و تعرف الفيزيا،



[ صفحه 147]



و الكيميا، و الهندسة، و كل المعادلات، و تعرف الزراعات، و الصناعات، و التجارات، و ما هي الأرباح، و ما هي الخسارات، و ما هي البحور، و ما هي الشطآن، و ما هي الأفلاك، و ما هي الأرض، و ما هي السموات، و ما هي الأمم، و من هو الانسان، و ما هي العلوم، و ما هي الثقافات...

العلم وحده يكون في حقيقة المعرفة، و حقيقة التحليل، و التعليل، و المقارانات: بين ما هو حق يبني المجتمع، و ما هو شر يفتته - و عندئذ تدرك الأمة أن النبي جاءها من علاء ليبنيها أمة راشدة و هادية، و أن العلم المرسخ في لبدة الأجيال هو الذي ينيرها و ينميها في رحاب الرشد، و في أحضان الهداية. و انما المجتمع ترسيخ، و نمو، و ظل ثقافات. أليست هكذا نظرة النبي الي تركيز الأمة في حضن الرسالة و احاطتها بزنار الامامة.

إنها بدهيات و حتميات، أحاط بها الإمام بعد أن كشفت له أن الطالبيين و علي رأسهم الإمام علي، خسروا جولاتهم الامامية التي رسمها الرسول، و ذاقوا الموت و التنكيل، و لن يكون تشبث الخط - من بعدهم - برسالة الامامية، الا ملاقيا ما هو بانتظاره من أنواع التعذيب و التنكيل... أما أن تعرف الأمة أنهم من أجلها يعانون و يبذلون الروح و لا يبالون... فتلك أطروحة انموذجية قام بتسجيلها جده الحسين، و هي بانتظار من يشرحها حقا، و يظهرها انتصارا لقضية الأمة المفتشة عن الاباء: يرفض الذل، و يعشق العدل، و يثبت القسط بين الناس، و يقدس الحريات... و تلك نغمات ثرية، لن يحفرها في التسجيل الا التثقف الذي رسم الوصول اليه جده الرسول في تنسيقه خط الامامة.

كل ذلك ألم به الإمام و هو في استقراءاته مع الشيخ جابر، و مع أبيه الإمام الساجد، و مع نفسه الغارقة في بحور التأمل... لقد دله الغوص الي كل ماهية من الماهيات، وسع بها معارفه تحضيرا لاستلام المهمات. فالامامة التي فرضها جده الرسول، انما هي - بحد ذاتها - علم، و اطلاع، و احاطة، و فوق ذلك فانها واصلة اليه الآن بلون جديد فيه الكثير من



[ صفحه 148]



الاستحثاث علي نشر العلم، و تكثيف الجهود، تعويضا عما يناهز قرنا من السنين، خسرت به الأمة جولة تحضيرية كان علي أئمة أربعة أن يرفعوا بها ثقافاتها الي سوية مرموقة توضح بها خطوط الصواب.

لقد فهم الإمام أن التعويض علي الأمة لا بد منه فهي أبدا في الانتظار. و أدرك أيضا أن ثمانية من الأئمة لا يزالون في حقول الانتظار. سيكون لهم ثمانية عهود طويلة سيملأونها بالجهود النفيسة علي مدي قد يمتد الي ثلاثة أجيال، و ربما - إذا طاب الجو - الي أربعة، و هي مسافة كافية لترسيخ العلوم و حفر الثقافات التي توصل الأمة الي الصواب المرتجي - و الهدي المنتظر.

و هكذا راح أيضا يحسب الامام:

لقد رشحني جدي الرسول - و أنا لمحة من وحيه -

لأن أبقر العلم و أنيله الأمة حتي تستنير به

و تجمعه لها رصيد هداية... و هل يكون لي ألا أفعل؟

فأنا رأس ثمانية تنتظرهم الأمة في سلسلة الوعد.

فان لم نهرع - منذ الآن - الي تلبية ذكية،

فاننا جميعنا المهدورن...

و بالتالي... فان الأمة هي المهدورة.

الي أن يتم لها و لنا هذا الرهان.



[ صفحه 149]