واقع أهل البيت
انه الواقع الجليل - جللتهم به الرفقة الحميمة، و القرابة الملتهبة باللواعج المطهرة بالحب، و الصدق، و الحدب الكبير... يا للروابط المتينة، تجمعها الأرض في قوالب الطين، و تسكب فيها السماء أثيرا من ملكوت، فاذا الوجود كله انسان يحلم بالنعمي التي تطير به الي جنان.
و أهل البيت - بيت النبي - هم الذين ظللهم - و النبي - سقف واحد، ما اندمجت جذوعه الا بشوق واحد مضمخ بطهر أطيب من فتيت المسك - انهم أربعة جمعهم النبي في حوضه، و محضهم حبا يعيشون به و لا يموتون. لقد دل اليهم بأنهم المطهرون من كل رجس، و أن الأمة كلها بمثل هذا الطهر فلتبن بيوتها، و اعمارها، و أجيالها... و ان لم تفعل فالرجس يعميها.
و اغمض النبي عينيه تاركا أهل بيته - من بعده - وعدا للأمة، و ذكرا، و ذخرا... ولكن السقيفة التي راحت تسهر ليلا حزينا علي غياب النبي، صاغت قرارها قبل أن تغيب نجمة الصبح:
- لن نسمح لأحد من أهل البيت بالوصول الي كرسي زعامة:
لن يتشهي طالبي كرسي زعامة قبل أن نسقيه نقطة سم:
أما الخلافة فهي لنا ... حتي ولو كنا رجسين...
أما الامامة - حتي ولو كانوا مطهرين - فلتبق لهم مقهورين:
فليكتفوا بالامامة... علي أن يبقوا صامتين:
انه تهديد صاغته و نفذته السقيفة... أما الأمة فقد ألهيت بالقبلية... أما الامامة فلم ينجها - لا القهر و لا الصمت - و بقي السم يندس في ماء شرابها... و بعد مئة سنة لا نزال نسأل: لماذا هذا الواقع الراهن لا يتبدل و لا يتغير؟.
[ صفحه 153]
من هذا الاستعراض الذي تم الجواب عليه مشروحا شرحا كافيا في متن هذا الكتاب، بني امامنا الباقر تصميمه الحازم و هو يقول:
- أية قيمة للرسالة، أبو بالأحري، للإمامة؟ و اثنتاهما في عملية واحدة في التساند، و التكامل، من أجل الوصول الي الأمة و رفع مستواها المادي و الروحي علي السواء؟.
أي شي ء هي الرسالة، ان لم تكن هي ذاتها الأمة، و قد خلعت قميصها البالي و استبدلته بالجديد النظيف؟.
أن يحاول الهرمون استبقاءها في رثاثتها المعهودة فتلك - لعمري - رثاثة أخري يأباها منطق الحياة و جوهرها النامي بحقيقة الانسان.
ان الأمة - في نظرة الرسالة - هي الخلية الكبري لكل مجتمع من مجتمعات الانسان، و هي البوتقة الصالحة في مداها الموسع بالتفاعلات الانسانية النابضة بحقائق الوجود، لانماء المواهب، و المدارك، و الحقائق، و كلها هبات عقلية - ذهنية - روحية، تلون حضارات الانسان، و تزينها بصفات خلقية مبرورة، تخشع المجتمع كله في حضرة اله الخلق، و تجعله مبدعا في كل ما ينتج، و عفيفا في كل ما يشتاق اليه، و مؤمنا بكل ما هو حق، و عدل، و صفاء...
الأمة الأمة، تقول الرسالة بكل ما فيها من حق وحدب، و رجاء...
علموها - ثقفوها - وسعوها بالفهم - حتي تكون لكم حصنا و مجنا...
و الا فانها قطعة رثة من قميص عتيق، تهلهلها ريح جاهلية،
و تشويها هبات السموم...
أي شي ء نترجي من الواقع الراهن - يتابع هجسه الإمام الباقر - طالما أن الامامة لم تتمكن من سد الثغرات المميتة، و طالما لا يزال القميص
[ صفحه 154]
الرث علي عري الأمة، تزيد من رثاثته فئة التقليديين المستنقعين في بؤرة جاهلية... ستبقي الرسالة هكذا محجوزة ضمن الغلاف. و ستستمر الأمة هاجعة أسيرة عريها في زوايا الكهوف. أما القبائل المشرورة كلها من مكة الي سائر الحرات و الأحقاف، فليس لها الا أن تتابع اجترار السلاسل في أقدامها المطلية بالرماد...
تبقي الامامة - و قميصها عفاف طالبي - و ازارها رسالة نبوية، و مطلبها شوق علوي - بانتظار أن تنتصر لها الأمة و تنجيها من التهديد المبيد...
ولكن الأمة لن تأتي الي النصرة المرجوة... و أولا و اخرا هي المرجوة - ما لم تستعن الامامة المعزولة إلي زوايا الصمت، بعزم وحيد لا مناص من اعتماده، و هو تزويد الأمة بعلم، وسيع، مجرد، يثقفها رويدا رويدا، و هو الذي سيرسخها في ادراك ما ينجيها من العبوديات، و هو الذي سينميها انسانا واعيا: ما هو الحق فيهيم به، و ما هو الخير فيشتد اليه، و ما هو الصواب فيعانقه ارتياضا، و ما هو الشر فيرفضه امتعاضا...
علي كل ذلك كان رهان الامام، و ما علينا الا أن نراه نهاجا كبيرا ينشر علما، و يوسع جامعة.
[ صفحه 155]