بازگشت

النهج


لم يكن نهج الإمام الا مركزا تركيزا متينا علي اقتناعه الصامد بأن العلم - وحده - هو الذي يسير بالأمة الي مراتب التقدم و الفلاح. و كان الإمام يعرف تمام المعرفة، أن العلم لن يقوم بهذه المعجزات الا عندما يستحيل - في المجتمع - ثقافة حية، و يقينا فاعلا، و بحبوحة من حق، و خير، و معروف، انه - ساعتئذ - تلك الطاقة العقلية - الذهنية - النفسية - الروحية التي حلم جده الرسول بايصال أمته إلي اغتمار بها، لتكون أمة هادية لكل أمم الأرض.

سيكون نهج الإمام محصورا في مواردها و مصادرها، و هكذا سيكون التجرد للعلم من دون أن يهتم بأي غرض سواه، اقتناعا منه، بأن لكل غرض من أغراض الحياة اختصاصا معينا يقوم به حتي يوفيه حقه من الاتقان، و اقتناعا منه - أيضا - بأن مطلق غرض من الأغراض، لن يصيبه حظ سعيد إلا إذا نقحه العلم، و زينه بالفهم الصحيح.

سيكون للعلم أن يفهمنا: لماذا نأكل، و لماذا نشرب، و لماذا نمشي فوق الدروب - و ان يعلمنا كيف نزرع، و كيف نجني مواسمنا، و متي علينا أن نخزنها في اهراءات - و هو الذي يعلمنا كيف نصنع الاهراءات - أما الكراسي التي يجلس فوق متونها الحاكمون، فالعلم ذاته هو الذي يرشدهم الي تنجيدها بزهر البيلسان، و أن لا يسقيها الا عصير الحق، و العدل، و ذوب التقي، و زلال من كوثر الجنان.



[ صفحه 156]



سيشرح العلم للأمة و للحاكمين: أن الضمير في الانسان و علي الأخص في طوايا الحاكمين، هو العنصر الكمين فيه، و هو النجي النجي، لا ينعشه و يحييه، و يبهيه الا الحق المعصور في لب الانسان، و التقي المسكوب في عبه، و الزلال المصفي في رقعة الوجدان.

هكذا هو النهج في أنماط الامام، تزين به صريحا أمام الأمة حتي تشاهده - يوما بعد يوم - يقدم لها ما يثقفها فتنجلي به: عقلا، و حسا، و عينا، و أذنا... و اختال به نزيها - تحت عين الحاكم المتولي، حتي يراه رابضا فوق منبر جامعي، يعالج العلوم كلها، و يوضحها بالشرح، و بحقيقة التجرد، فيرتاح باله بأن السياسة باقية له - وحده - لا يشاركه بها، لا المزاحم، و لا المتجني، بل المتمني علي الريح السماوية أن تنسل، مع خطوات الدهر - نسمة نسمة - الي الأذهان، فتزهو العقول، و تسلم الأبدان، و تستقيم الأمة علي ميزان يرجحها: ثقافة، و نظارة، و نقاء وجدان.

من هنا يكون ابتعاد الإمام عن حقول السياسة، و عن الالتجاء الي محاولات معددة الأشكال، و منوعة الأحجام، للوصول الي ملاقطها، دليلا قاطعا علي مجافاتها و قلة احترامها، باعتبارها - مع المتلقطين بها - غير صالحة لادارة أمة واعية و مستوعبة كل مصالحها... فالحكم فن من الفنون العالية، ركيزته الحب، و الفهم، و الحدب علي الأمة من خلال الاطلاع، و الاختصاص، و الممارسات الحكيمة، هذا ما لم يتصف به مطلق زعيم ادعي أنه خليفة نبي المسلمين.

أما الاطلاع، و الاختصاص، فهما الطاقتان الهزيلاتان في دوائر الأمة، هزالا بائسا، و لن يجعلهما حلقتين متينتين في سلسلة الحكم القابض علي مقدرات أمة، الا العلم الموزع المعرفة علي المطلعين،



[ صفحه 157]



و المتخصصين، و المتمرسين في معالجات القضايا المتعلقة بصميم المجتمع الانساني العظيم.

هكذا يتضح نهج الإمام و هو يقرر جازما: إذا كان العلم الوسيع هو المقرر بناء الأمة، عبر بناء كل فرد من أفرادها الذين هم خيطانها، و حبالها، و أوتادها... و عبر بناء كل حاكم من حكامها الذين هم المدبرون، و السائسون، و الموجهون المستنيرون و الصادقون... أليس من الضرورة الماسة و القاطعة، أن يتجرد لخدمة العلم، و تركيزه، و توسيعه، و الإلمام به: أولياء متخصصون، ينقطعون اليه، و يتنسكون في محرابه، و يفتحون له الأبواب، و كل الأشرعة، لأنه الطاقة العظيمة و الوحيدة التي تطوق العقل بأسلاك النور، و ترفعه الي مهابات سماوية؟.

أليست الأمة العظيمة، في مجتمعها الانساني العظيم، هي الدائرة العظيمة التي لا يبني لها الأبراج العالية الا العلم الرفيع؟.

انه تقرير النهج: بأن الإمام الباقر هو المتخلي عن كل شي ء من متاع الدنيا، و هو المنضوي الي مسجد جده الرسول، و هو الموسع مدارجه السنية في يثرب، و هو الذي جعلها مدارج جامعة.



[ صفحه 158]