بازگشت

الجامعة


منذ أن بني المسجد في يثرب و هو جامعة لأهل البت، يفتحون أبوابه لجميع المصلين بين يدي نبيهم الرسول، و مثلما كان جامعة للصلاة، كان أيضا زوايا وردهات لأخذ الدروس، و الشروحات و الأحاديث، و الاستفسارات، أكان ذلك علي عهد الرسول أم فيما بعد مع الإمام علي، و الإمام الحسن، و الإمام الحسين.

لقد كان المسجد في المبتدأ مقاما للصلاة، ثم خليطا من عدة أجنحة: للدروس البسيطة، أو للتبسطات الفلسفية، أو للاستفسارات الفقهية، أو للتداول في الشؤون الفكرية و السياسية، الي ما هنالك من مستلزمات حياتية - تربوية بدأ اليثربيون يشعرون أنهم بحاجة اليها.

ولكن الأئمة الثلاثة الأولين ما توفرت لهم الهنيهات المستقرة حتي يركزوا ردهات المسجد علي الخطط الموزونة و المرسومة، فكثيرا ما ألهي الإمام علي عن سكب طاقاته العلمية و الفكرية و النهجية في صدور طلابه المريدين الذين كانوا ينتظرونه في ردهات المسجد. يكفيه من اهدار طاقاته الفكرية و الروحية و الجسدية، و حجبها عن زوايا المسجد: يوم الجمل و أيام النهروان. أو السفسطات و المماحكات التي حبلت بها مومياء صفين... ألا يكفيه ابعاد عن خطوطه الامامية البعيدة الرؤية الي مسافات الغد انسحابه الي الكوفة لاستجماع قواه المبعثرة بين يثرب يخنقها زفير



[ صفحه 159]



الصمت، و مكة يعود اليها لهاث من صدر هبل... و هكذا، رويدا رويدا، طاله ابن ملجم بظبة مسموفة...

و كذلك جاء القاصدون تمويه الخطوط فلفلفوا الإمام الحسن بخيانة قائد جيشه عبيدالله بن العباس، فعكف الإمام علي الصمت، و لم يلجأ الي عسكرة القبائل صونا لمقدرات الأمة من الانهيار بهدر الدم، و رجع الي يثرب يفتح في مسجدها غرفة يدرس فيها فلسفته المقهورة... و قبل أن يلمع في الغرفة تلك نقش جامعي، تسربت الي كوبه نقطة سم يبسته علي فراشه في زاوية البيت...

الحسين وحده ما أراد أن يدخل المسجد الا دخول الفاتحين، و هكذا لم يطق أن يقدم دروسه ضمن غرف لها جدران، بل في العراء العريض راح يلقيها حتي يتلقفها الوسيعان: المكان و الزمان، و حتي يكون الرفض الذي هو العنفوان، مادة اكسيرية تتلقح بها كل الفروع العلمية، بما فيها الكيميا أم المعادلات، و لب السر في جميع التحويلات، و التطويرات، و التخميرات.

لقد كان لاستشهاد الحسين فعله التخميري في نفس الإمام علي بن الحسين: تناوله حزنا عنيفا، راح يفيض علي كل شعاب روحه ، ثم تحول - بقوة ذلك الاكسير - الي مدي آخر من صلوات بكر يزدان بها الرضوان بأدب يزهي النفس بانتاج نهجي يعلم الصبر علي المكاره و هو يرذلها في دوائر الحاكمين تصنفهم كواسر من أبالسة مرذولين.

هنالك شي ء له قيمة الترجيح، أظنه قد عجل في أحداث التحويلات النفسية التي تحلي بها الإمام علي بن الحسين، و هي احتكاكه بابنه محمد الباقر، و بالانصاري جابر ابن عبدالله، و هما يرجوانه - بحرارة - أن يذيب حزنه علي أبيه الحسين في دائرة الاهتمام بأمر الرعية، فيكون له - من ذلك - مرضاة الله في خضوع لمشيئته، و تلبية ماسة للقيام بمهام



[ صفحه 160]



الامامة... ان هذا الرجاء المزدوج نجده واردا في بعض صفحات من هذا الكتاب، و هو الذي لباه الامام، وراح ينشي ء أدب الأدعية التي وصفته بزين العابدين - ان في بسمته أيضا - غلالة من حزن لا تزال موصوفة.

ولكن بريقا آخر كان يسوح في عينيه - من بعد الي بعد - كلما حوله صوب ابنه محمد، و هو جالس القرفصاء - علي الحصير - بين طلاب راحوا يملأون قاعة الدرس في المسجد المرحب بالامام العائد - و لو من كربلاء - حتي يوسع بالعلم النفيس جميع ردهاته.

لم يبلغ الفتي محمد الباقر السابعة عشرة من عمره - كما أتوقع - حتي اتسعت في المسجد زاوية أخري من زواياه المقدسة، راح الفتي يمسحها بعلم الحساب و علم الجغرافية البطليموسية، و بشي ء من علوم الفيزيا، و الميكانيك، و بشذرات عجيبة من علوم الكيميا... تاركا لأبيه الإمام التبسط بالفلسفة، و الحديث، و الفقه، و نباهة التفسير.

لقد أدرك - مليا - الإمام زين العابدين، أن العلوم هي نفحة سنية من نفحات الرسول، أوحي الي حفيده بأن يفجرها علي الأمة المحرومة من عطاياها، بعد أن جردوها من جدواها بتعطيل فعل الامامة التي شدها الرسول - خصيصا لافاضتها علي الأمة نورا و هداية.

علي مدي عقدين تقريبا، أضحي المسجد أوسع من معهد تدريسي عادي، لقد راح يغص بالطلاب الوافدين من مكة، و واسط، و اليمن، و الكوفة، و كل الحجاز، لقد زاره في الفترة الأخيرة وال من الولاة الموصوفين بالعلم و التقوي، اسمه عمر بن عبدالعزيز، فأدهشه ما رآه في المسجد من علم، و تخصص، و تجرد، و تفان عفيف، فأمر بتوسيع مدارجه، بحيث أضحت رقعة أرضه تنوف عن أربعين ألف ذراع. لقد نال الصدق، و الاخلاص، و وضوح الرؤيا، جائزة وسعت المسجد من معهد عادي الي جامعة... و هكذا أغمض الإمام زين العابدين عينن قريرتين و هو يترك الجامعة في عهدة من ركزها تركيزا علميا صادق التوجيه باسم أهل البيت.



[ صفحه 161]



و علي مدي عقدين تلوا غياب الإمام زين العابدين، و الإمام يسخو علي الجامعة يتفتيشه الدؤوب و المخلص عن كل مادة علمية يعرفها العصر: كالطب، و الهندسة، و التاريخ، و رصد النجوم، و التعدين، و كشف المساحات... فإنها كلها أصبحت في خزائن الجامعة ، يدرسها - أولا - ثم يشرحها هو بذاته لطلابه المريدين و المتشوقين.

كيف اتفق - يقول السؤال المتحرج - للعهد الذي لم ينج. من اثم وال اسمه يزيد، أن ينجو من سلسلة ولاة ما طاب منهم لا اثنان علي مدي يقارب الأربعين سنة، و هما معاوية بن يزيد يرفض الحكم موروثا عن أبيه الخليع... و عمر بن عبدالعزيز، ليس له من جدوده المروانيين، لا خيط باطل كمروان بن الحكم، و لا خلاعة تفرد بها يزيد بن عبدالملك، شارب الطلي، و شارب الدماء، و مولي الحجاج علي جماجم العباد... بل تفرد بصنج من ذهب، نقش عليه صلاة تقية، و سيرة ذكية، عرفت الحق، و نادت بالصواب... أما الباقون فحلقات من المروانيين، ما حكموا، بل ظلموا، و فحشوا، و انتهوا ببخيل أحوال، هو هشام بن عبدالملك...

بديهي أن يكون الجواب علي السؤال المتحرج مشروحا بهذا الشكل: ان العهد مع الإمام زين العابدين هو المتكامل بعهد الابن الإمام الباقر، و هو العهد الواحد الذي طالت اقامته في يثرب، و توضحت معالمه ورؤاه في جامعة المسجد. لم يكن له الا ترسيخ العلم من مأرب - لأنه هو الذي يرسخ ثقافة الأمة، و يوضح لها الخطوط الرشيدة، و عندئذ فالحاكم النبيل هو الذي يغطي الساحة لأن الأمة تكون قد أصبحت تعرف كيف ترفضه ان لم يكن نبيلا.

لقد تبني العهد المتلملم علي ذاته قضية بناء الأمة بقوتها الذاتية المتدرجة اليها من محصلاتها الثقافية، ولن يكون لها ذلك بين مساء



[ صفحه 162]



و صباح، بل هو ابتداء من لحظة الصدق و امتداد - مع التوافر الحي - الي قبضة من عقود السنين... و هكذا فلينم الحاكمون قريري العيون فوق كراسيهم، لأن العهد لا يطمع بحكم لم تنله بعد هاتيك الثقافة...

لقد قدم العهد ضمانة للحاكمين - في عدة مناسبات متتالية - تقول لهم: ليس للعهد مطمع بحكم يحضره الحقد و أخذ الثأر بصفوف قبلية، و هذا ما كان لون واقعة الحرة في يثرب، و لون انتفاضة التوابين في البصرة و الكوفة، و حتي لون الثورة التي توسعت و انتصرت بقيادة المختار الثقفي... فانها كلها - بلا استثناء - لم يخطط لها الإمام زين العابدين و لم يتصل بها بتاتا ذلك الرائي الآخر المؤسس فروع العلم في المسجد، لأن العلم لم يخطط لها وعيا مثقفا يشمل الأمة و يعبر عن رفضها حكما يجزي ء الأمة قبليات قبليات، و لا يوحدها فهما و وعيا، و تقريرا مصيريا يعتز بها الغد المنور.

صحيح ان ذلك كان شكلا من تقية قام بها العهد لتحاشي تعدي الحاكمين، ولكنه - بالقوت ذاته - لم يكن كرمي لعيونهم المعمية بمجد كاذب، ينيلهم الثراء طافحا في الغباء... فلينالوا الآن ثراءهم، و ليبق لهم - إذا أرادوا - فيض الغباء، علي أمل أن يتركوا للعهد فسحة التركيز في جامعة المسجد، و غدا، أو بعد غد يشرق يوم آخر علي الأمة، تأخذ منه نضجا في قدورها فتفرقة طعاما علي الحاكمين، تتثقف بها سياساتهم، و تنجلي عيونهم من الغباء الذي تثيره أقدام الجهل مع أقدام القبلية.

جل ما كان يتمناه الإمام الباقر اطالة عمر الجامعة حتي يمتن التركيز و تتوضح الاشارات اليها، فيكثر طلابها و يكونون نقلة علم، و حملة أقلام، و أساتذة مدارس و جامعات تحتاجهم الأمة موزعين فوق رحابها.

جليل أن تنشأ جامعة في يثرب، ولكن الأجل الأجل، أن تتعانق المدارس و الجامعات في كل مدن الأمة، و فوق كل مجالاتها المترقبة يقظة



[ صفحه 163]



الفكر، و حركة العمران، و تلك هي الانتصارات الزاحفة نحو فذوذية التحقيق في مؤاده العلمي - الثقافي المرتجي. ان العلم الصغير و العلم الكبير هما في جناحيهما المتلازمين في عملية نقل الفرد الي عمارة الأمة، و نقل الأمة الي القيمة الرفيعة المدافعة عن سلامة الفرد في اعتباره حجرا كبيرا في قلعة سورها.

لم يكن الإمام الباقر متخوفا من يد الحكم تعرقل مسعاه، فاحترازه من الحكم قد بناه علي طمأنته بأن السياسة ليست مطلقا من مبتغاه، و هذا هو الذي كان يرضي الحكم في ذلك الحين فيغل يده عن الأذية. ثم ان الإمام الباقر كان يري أن الحاكم في ذلك الوقت بالذات، لم يكن له أن يتلهي بفتح الثغرات - لا سيما و ان الجو مشحون بالنقمة عليه - يكفيه ما يدور في الخفاء من استعدادات انتفاضية انقلابية، يحضرها في الجانب القبلي الآخر، بنو العباس...

ولكن الإمام الباقر كان يري أيضا - بحدسه المصيب و علمه الموزون - أن الفئتين المالئتين ساحات الأمة، سيكون لهما من التحفظ و الترقب ما يجعلهما الي وقت طويل - رهناء انتظار الساعة الملائمة لتحقيق الغلبة... الي أن يتم ذلك يكون له - هو الإمام - تركيز آخر، تنطلق به الجامعة الي تحقيق هي الأمة بحاجة اليه في ابتعاد الفئتين المتعاديتين عن المسعي السليم.

أما بنو العباس، فان الإمام يتمني لو يصدقون إذا تيسر لهم الحكم، و تسلموا مقاليده، و أن يعودوا الي الاذعان و يطيعوا رغبات الرسول في تمكين خط الامامة من الاطلاع بمهماته المرسومة - لكانت الأمة هي الواصلة سريعا الي تعميم العلم، و اعتباره - كالنور و الهواء - هبة من الله لعباده، و حاجة كالماء و الطعام - لقيام الحياة بأود أبنائها.

ولكن الإمام كان خفيف التفاؤل بهم لأنهم لا يسعون الي الحكم الا



[ صفحه 164]



بخط قبلي تقليدي عتيق، لا بنهج رسالي واضح المعالم و بارز الخطوط... انهم يدجلون - علي ما يبدو - و يموهون، ولن يكون الدجالون من الصادقين.

هذا هو الجواب الكامل علي السؤال المتحرج... ولكن الإمام لم يسلم من نقطة سم، وجهتها التهمة الي هشام بن عبدالملك... بعد أن فجر العلم، علي مدي ثمانية و خمسين عاما تاركا للأمة و لابنه الإمام جعفر الصادق تابعة العمل الكبير الذي لم تشهد الأمة تصميما مثله منذ ذلك الوقت الي مثل هذا الحين.

سيبقي الإمام الباقر فذا في تفجيره العلوم، و احاطة مثلي بمؤديات لا تقوم بغيرها نهضة من نهضات الأمم.



[ صفحه 165]