بازگشت

الاحاطة


سيكون لنا وقوف بالغ الاحترام، يخشعنا في حضرة الإمام معبئا كل مواهبه باحاطة علمية و فكرية و روحية منوعة المواد، و مرجحة الأوزان، و كلها طاقات مجهدة، لا يتناول الفرد طاقة واحدة منها الا و يجهده بها و لها التفرغ و الاختصاص. أما امامنا الكبير فقد تناولها مرزومة في باقة واحدة - باسم العلم - و راح يستجليها طاقة طاقة، و يستدرجها لغزا لغزا، بالدرس و التنقيب، حتي إذا ما استسلمت اليه الواحدة تلو الأخري، هب الي تلاميذه يشرحها لهم: بشفتيه، و عينيه، و بنانات كفيه العفيفتين.

هكذا تناول مادة الحساب، و الهندسة، و الاقتصاد، و مادة الفيزياء، و الكيميا، و مطالع النجوم، و علم الجغرافيا، و التاريخ، و دوران الأفلاك، و بناء الأجسام، و الطبابة، و المداوة - و الي معالجة الفكر و الروح بالفلسفة، و ما يفترع منها من علم فقه، و علم حديث، و علم أصول و اجتهاد.

علي كل هذه العلوم و هذه الأبحاث، بني و وسع جامعته في يثرب، مجهدا نفسه - وحده - بالدرس و الشرح و التلقين، مع الساعات الأولي للفجر، و مع تراسلات أشعة البدر ما زال مهلا و مضيئا، علي مدار خمسين سنة من عمره القصير.

لقد ناف عدد تلاميذه علي أربعة آلاف من المتخصصين البارزين في علم الفقه، و علم الحديث، و علم الأصول، شأن أبان بن تغلب، وزرارة



[ صفحه 166]



بن أعين، و محمد بن مسلم... مع التنويه الكبير بما أحرزته الجامعة من تأسيس متين في علم الكيميا، أم المعادلات العجيبة، مما تفرد به في حقل الاختصاص، ابنه الإمام جعفر الصادق مع تلميذه النابغة جابر بن حيان الذي عكف عل اجهاد المعادلات علها تستجيب و تتوصل الي إلهاب المعادن الرخيصة، و تحولها الي لمعان ذهبي يخطف الأبصار.

هكذا عرف العلماء في الغرب قيمة مدرسة الإمام الصادق الموروثة عن أبيه الإمام الباقر، و قدموا دراسة وافية عنه، و وصفوا الجامعة في يثرب بأنها نشاط باقري عز نظيره في تلك الأيام الخالية من النشاطات العلمية الراجحة التحقيق، لقد ترجم الي العربية هذا الكتاب النفيس بشهادته للإمام الصادق و أبيه الإمام الباقر، الدكتور نور الدين آل علي، و فيه توضيح واف لما أقول.

إن جهود الإمام الباقر - كما يبدو و بوضوح - قد جعلته ملما بكل مادة علمية أخذها علي عاتقه بالدرس و الاحاطة، ثم بالشرح و التعليم و لقد أكسبته احاطة بها، كأنه المتفرغ و المتخصص في كل واحدة منها علي انفراد.

ولكن هذه الاحاطة - بدورها - لم تكن غرضا يشبعه، و يكتفي به، اذ يصل اليه، بل انه كان يسعي اليه كوسيلة قائمة بذاتها، تبتدي ء الآن به، كما كان مخططا أن تبتدي ء بجده الإمام علي، ثم عندما يصل الدور إليه - تمر عليه فتتكامل استئنافا لمؤداها، الي أن تناولها - من بعده - بذات المفعول و بذات الايمان، من تصل اليه لمتابعة الخط الامامي الذي عينه جده الرسول، و نوره بالمهدي المنتظر.

كل احاطة علمية فردية - مهما تبلغ دائرة تحصيلها الذاتي من عمق و اتساع - تبق حسيرة مخنوقة، ما لم يتسع بها الشمول الي المدي الجماعي، و هي تتكيف به اندماجا تفاعليا مستغرقا في حقيقة الذات، و في



[ صفحه 167]



حقيقة التعبير عن متطلبات تلح بها حاجات الحياة في المجتمع الانساني...

و العلم ذاته هو حاجة اجتماعية يفرض تحقيقها المجتمع ذاته، في استدعاء الفرد للقيام بها و تحريكها فاعلة ملبية. و لن تفعل ان لم تشمل الكثرة الساحقة في تأليفها الندوة الاجتماعية الناشطة، و عندئذ فالعلم هو المجتمع المحقق ذاته بذاته، بتحريض ناتج من ارداته المشتاقة، و هو - ساعتئذ - تلبية صادقة تتحول تلقائيا الي تدرج ثقافي يتمرس به المجتمع، و هو يرتب أود معاشه في محيطه المتلازم به شأنا مصيريا - أنانيا - انمائيا، يتميز بعز و رفاهية تعين قدرها تلك الثقافة الناتجة من التضافر العلمي، و من مقدار تمكن المجتمع من تعميمه و تنشيطه فاعلا فعله المتكامل.

و لا يفعل العلم فعله المتكامل الا في المجتمع المندمج به اندماجا، عضويا، و هكذا هو - في المجتمع - من بيئته، و حاجاته، و مناخاته، و جميع شؤونه الفكرية، و الروحية، و الحياتية: فهو فلسفته، و أدبه، و سياسته، و جغرافيته، و زراعاته، و صناعاته، و تجاراته، و نهجه في التصرف... و كلها الي تطوير، و تصويب، و تعديل، و تنسيق، و تثقيف، و بالتالي الي تنمية انسانية و حضارية ترتفع به من سوية الي سوية أخري، لا تحققها الا الثقافات الصحيحة، و المثاليات المرتفعة بقيمة الانسان.

و العلم الصحيح المركز علي حاجات الانسان في مجتمعه القائم به، هو التماس صادق التعبير، و الا فهو عنجهية فردية تنتج غرورا في النفس متقزما في ادعائه، و لا ينتج - أبدا - ثقافة مرجوة.

و ليست الثقافات - في مطلق الحال - أقل من انتاج جماعي، يتهذب به الفرد الذي يستدعيه المجتمع الواعي الي دوائره المحصنة... سيكون المجتمع بناء الفرد، و سيكون الفرد - أبدا - هو المستدعي الي انشاء القلعة التي تمتن به، و بها يعتز.



[ صفحه 168]



ذلك كله هو مبتغي الإمام الباقر، في انباثقه من أشواق جده الرسول، و من واقع الأمة التي تستدعيه - بكل ما هو واقع راهن فيها - الي انتفاضات هادئة ورصينة، تمشي كما يمشي النور الي بري الظلمات، من دون تعثر بالوعورات التي هي حفر في الدروب يغطيها الهشيم.

العلم الكامل وحده - هو الطاقة الفاعلة في احداث الانتفاضات الهادئة و المنتصرة علي البؤس، و الظلم، و الفقر، و الجهل، و السياسات الهمجية... و العلم المتكامل هو المتمادي في نضجه التخميري الكامن في معادلاته الثقافية، و هي التي تتناول المجتمع في تهذيب خلاياه، و تنظيفه من هشيم الريب.

هنا محط آمال الإمام الباقر: ابتداء مصمم علي تركيز العلم، و نشره، و تعميمه... لأن الأمة هي بحاجة الي منشورا، و معمما، و فاعلا فيها فعل الخمير.

فاذا صحت الآمال، و استقامت لها الأشواق في التنفيذ المرجي، و حسب الخطط المرسومة، فالأمة هي علي الدرب الأمين، تنظفه - رويدا رويدا - ثقافاتها من تراكمات الهشيم.

أما إذا تعكرت السماء و ادلهمت بها أعاصير... فان علي الشاطي ء ما هو مغروز كعمود منارة، يشير الي جامعة لا يتمكن من محوها الدهر... انها في يثرب تذكر الأمة: بأنها لن تنال من الفلاح شأوا، ما لم تنشر في كل رحب من رحابها جامعة تغص بالعلم و الطلاب.

الامام الباقر هو الضوء الكبير المنثور

فوق السارية.

و هو عميد الجامعة

و انه القدوة...

و انه نجي الرسول...