بازگشت

نشأة الإمام محمد بن علي الباقر


لقد ازدهرت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام بهذا الإمام العظيم الذي التقت فيه عناصر الشخصيّة من السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وامتزجت به تلك الاصول الكريمة والاصلاب الشامخة، والارحام المطهَّرة، التي تفرّع منها.

فالأب: هو سيد الساجدين وزين العابدين وألمع سادات المسلمين.

والأم: هي السيدة الزكية الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة، وتكني أم عبد الله [1] وكانت من سيدات نساء بني هاشم، وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يسميها الصديقة [2] ويقول فيها الإمام أبو عبدالله الصادق(عليه السلام): «كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن مثلها» [3] وحسبها سموّاً أنها بضعة من ريحانة رسول الله، وأنها نشأت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ففي حجرها الطاهر تربي الإمام الباقر (عليه السلام).

المولود المبارك: وأشرقت الدنيا بمولد الإمام الزكي محمد الباقر الذي بشّر به النبي (صلي الله عليه وآله) قبل ولادته، وكان أهل البيت (عليهم السلام) ينتظرونه بفارغ الصبر لأنه من أئمة المسلمين الذين نص عليهم النبي (صلي الله عليه وآله) وجعلهم قادة



[ صفحه 40]



لاُمته، وقرنهم بمحكم التنزيل وكانت ولادته في يثرب في اليوم الثالث من شهر صفر سنة (56 هـ) [4] وقيل سنة (57 هـ) في غرة رجب يوم الجمعة [5] وقد ولد قبل استشهاد جده الإمام الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين [6] وقيل بأربع سنين كما أدلي (عليه السلام) بذلك [7] وقيل بسنتين وأشهر [8] .

وقد أجريت له فور ولادته مراسيم الولادة كالاذان والاقامة في اُذنيه وحلق رأسه والتصدق بزنة شعره فضة علي المساكين، والعَقِّ عنه بكبش والتصدّق به علي الفقراء.

وكانت ولادته في عهد معاوية والبلاد الاسلامية تعج بالظلم، وتموج بالكوارث والخطوب من ظلم معاوية وجور ولاته الذين نشروا الإرهاب وأشاعوا الظلم في البلاد.

تسميته: وسماه جده رسول الله (صلي الله عليه وآله) بمحمد، ولقّبه بالباقر قبل أن يولد بعشرات السنين، وكان ذلك من أعلام نبوته، وقد استشف (صلي الله عليه وآله) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس فبشّر به أمته، كما حمل له تحياته علي يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري.

كنيته: «أبو جعفر» [9] ولا كنية له غيرها.

ألقابه الشريفة: وقد دلّت علي ملامح من شخصيته العظيمة وهي:

1 ـ الأمين.



[ صفحه 41]



2 ـ الشبيه: لأنه كان يشبه جده رسول الله (صلي الله عليه وآله) [10] .

3 ـ الشاكر.

4 ـ الهادي.

5 ـ الصابر.

6 ـ الشاهد [11] .

7 ـ الباقر [12] وهذا من اكثر ألقابه ذيوعاً وانتشاراً، وقد لقب هو وولده الإمام الصادق بــ (الباقرين) كما لقبا بــ (الصادقين) من باب التغليب [13] .

ويكاد يجمع المؤرخون والمترجمون للإمام علي أنه إنّما لقب بالباقر لانه بقر العلم أي شقه، وتوسع فيه فعرف أصله وعلم خفيه [14] .

وقيل: إنما لقّب به لكثرة سجوده فقد بقر جبهته أي فتحها ووسعها [15] .

تحيات النبيّ (صلي الله عليه وآله) الي الباقر (عليه السلام): ويجمع المؤرخون علي أن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري تحياته، الي سبطه الإمام الباقر، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي اليه رسالة جده، فلما ولد الإمام وصار صبياً يافعاً التقي به جابر فأدي اليه تحيات النبيّ (صلي الله عليه وآله) وقد روي المؤرخون ذلك بصور متعددة وهذا بعضها:

1 ـ روي ابن عساكر ان الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومعه ولده الباقر دخلا علي جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له جابر: من معك يا ابن رسول الله؟ قال:



[ صفحه 42]



معي ابني محمد، فأخذه جابر وضمّه اليه وبكي، ثم قال: اقترب اجلي، يا محمد! رسول الله(صلي الله عليه وآله) يقرؤك السلام. فسئل: وما ذاك؟ فقال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: للحسين بن علي يولد لابني هذا ابن يقال له علي بن الحسين، وهو سيد العابدين إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين، ويولد لعلي بن الحسين ابن يقال له: محمد اذا رأيته يا جابر فاقرأه مني السلام، يا جابر اعلم ان المهدي من ولده، واعلم يا جابر أ نّ بقاءك بعده قليل» [16] .

2 ـ روي تاج الدين بن محمد نقيب حلب بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «دخلت علي جابر بن عبد الله فسلّمت عليه. فقال لي من أنت؟ وذلك بعد ما كف بصره، فقلت له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: بأبي أنت وأمي، ادن مني فدنوت منه، فقبّل يدي ثم أهوي الي رجلي فاجتذبتها منه، ثم قال: إن رسول الله يقرؤك السلام، فقلت وعلي رسول الله (صلي الله عليه وآله) السلام ورحمة الله وبركاته، وكيف ذلك يا جابر؟ قال: كنت معه ذات يوم فقال لي: يا جابر لعلك تبقي حتي تلقي رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب له الله النور والحكمة فاقرأه مني السلام...» [17] .

3 ـ ذكر صلاح الدين الصفدي قال: «كان جابر يمشي بالمدينة ويقول: يا باقر متي ألقاك؟ فمرّ يوماً في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبياً في حجرها فقال لها: من هذا؟ فقالت: محمّد بن علي بن الحسين، فضمّه الي صدره، وقبّل رأسه ويديه، وقال: يا بني، جدّك رسول الله (صلي الله عليه وآله) يُقرِئُك



[ صفحه 43]



السلام ثم قال: يا باقر نعيت إليَّ نفسي فمات في تلك الليلة» [18] .

ملامحه: كانت ملامح الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) كملامح رسول الله (صلي الله عليه وآله) وشمائله [19] وكما شابه جده النبيّ (صلي الله عليه وآله) في معالي أخلاقه التي امتاز بها علي سائر النبيين فقد شابهه في هذه الناحية أيضاً.

ووصفه بعض المعاصرين له فقال: إنه كان معتدل القامة اسمر اللون [20] رقيق البشرة له خال، ضامر الكشح، حسن الصوت مطرق الرأس [21] .

ذكاؤه المبكر: وكان (عليه السلام) في طفولته آية من آيات الذكاء حتي أن جابر ابن عبد الله الانصاري علي شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه... وقد بهر جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول:

«يا باقر لقد اُوتيت الحكم صبياً» [22] .

وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الإمام منذ نعومة أظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون ان رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقف علي جوابها فقال للرجل: اذهب إلي ذلك الغلام ـ وأشار الي الإمام الباقر ـ فاسأله، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فأجابه (عليه السلام) عن مسألته وخف الي ابن عمر فاخبره بجواب الإمام، وراح ابن عمر يبدي اعجابه بالإمام قائلاً:



[ صفحه 44]



«انهم أهل بيت مفهّمون» [23] .

لقد خص الله أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم والفضل، وزوّدهم بما زوّد أنبياءه ورسله من الفهم والحكمة حتّي أنه لم يخف عليهم جواب مسألة تعرض علي أحد منهم، ويقول المؤرخون ان الإمام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها.

هيبته ووقاره: وبدت علي ملامح الإمام (عليه السلام) هيبة الأنبياء ووقارهم، فما جلس معه أحد إلا هابه واكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له:

«لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك» [24] .

نقش خاتمه: «العزة لله جميعاً» [25] وكان يتختم بخاتم جده الإمام الحسين (عليه السلام) وكان نقشه «إن الله بالغ أمره» [26] وذلك مما يدل علي إنقطاعه التام إلي الله وشدة تعلقه به.



[ صفحه 45]




پاورقي

[1] تهذيب اللغات والاسماء: 1 / 87، وفيات الاعيان: 3 / 384.

[2] عن الدر النظيم من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين تسلسل (2879).

[3] أصول الكافي: 1 / 469.

[4] وفيات الاعيان: 3 / 314، تذكرة الحفاظ: 1 / 124.

[5] دلائل الامامة: 94.

[6] اخبار الدول: 111، وفيات الاعيان: 3 / 314.

[7] تأريخ اليعقوبي: 2 / 320.

[8] عن عيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب من مخطوطات مكتبة الإمام الحكيم تسلسل (975).

[9] دلائل الامامة: 94.

[10] اعيان الشيعة: ق1 / 4 / 464.

[11] راجع جنات الخلود، وناسخ التواريخ. حياة الإمام الباقر(عليه السلام).

[12] تذكرة الحفاظ: 1 / 124، نزهة الجليس: 2 / 36.

[13] عن جامع المقال للشيخ الطريحي.

[14] عيون الاخبار وفنون الآثار: 213، عمدة الطالب: 183.

[15] عن مرآة الزمان في تواريخ الاعيان: 5 / 78 من مصورات مكتبة الإمام الحكيم.

[16] عن تاريخ ابن عساكر: 51 / 41 من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

[17] غاية الاختصار: 64.

[18] الوافي بالوفيات: 4 / 103.

[19] اُصول الكافي: 1 / 469.

[20] اخبار الدول: 111، جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام: 132.

[21] اعيان الشيعة: ق1 / 4 / 471.الكشح: ما بين الخاصرة الي الضلع الخلف، والضامر هو الهزيل والخفيف اللحم. راجع مختار الصحاح. ظ.

[22] علل الشرائع: 234.

[23] المناقب: 4 / 147.

[24] اثبات الهداة: 5 / 176.

[25] حلية الأولياء: 3 / 189.

[26] في رحاب ائمة أهل البيت (عليهم السلام): 4 / 4.