بازگشت

الإمام محمد الباقر في ظل جده وأبيه


مرّ الإمام الباقر (عليه السلام) بمرحلة رافقت الكثير من الأحداث والظواهر في ظلّ جده وأبيه (عليهما السلام) ويمكن تلخيصها بالشكل التالي:

1 ـ عاش الإمام الباقر (عليه السلام) في ظلّ جدّه الحسين (عليه السلام) منذ ولادته وحتي الرابعة من عمره الشريف وقد مكنه ذلك من الإطلاع علي الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية وإدراك طبيعة سيرها وفهم اتجاه حركتها بما اُوتي من ذكاء وفهم منذ صباه.

لقد عاش الإمام الباقر (عليه السلام) في مقتبل عمره حادثة مصرع أعمامه وأهل بيته الطاهرين وشاهد باُم عينيه ملحمة عاشوراء ومقتل جدّه الحسين(عليه السلام) واُخذ مأسوراً الي طواغيت الكوفة والشام وشارك سبايا أهل البيت(عليهم السلام) فيما جري عليهم من المحن والمصائب الأليمة التي تتصدّع لها القلوب.

كما استمع إلي أقوال أبيه الساخنة وهو يخاطب الطاغية المتغطرس يزيد في الشام والتي كان منها قوله(عليه السلام): يا يزيد! ومحمد هذا جدي أم جدّك؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فِلمَ قتلت عترته؟!!) [1] .

2 ـ وعاصر الإمام الباقر (عليه السلام) في سنة (63 هـ) واقعة الحرّة التي ثار



[ صفحه 48]



فيها أهل المدينة علي حكم يزيد وهو في السادسة من عمره الشريف، حيث شاهد نقض أكابر أهل المدينة وفقهائها لبيعة يزيد الفاجر [2] ورأي مدينة جدّه عندما أباحها يزيد لجيشه الجاهلي ثلاثة أيّام متواليات يقتلون أهلها، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم [3] .

3 ـ عاصر الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه المرحلة من حياته الانحرافَ الفكريَ الذي تسبب الاُمويّون في إيجاده مثل بثّهم للعقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم; لأن هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الاُمة مستسلمة للحكام الطغاة ما دامت تبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله.

4 ـ ومن الظواهر التي عاصرها الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) وهو في ظلّ أبيه السجّاد (عليه السلام) ظاهرة الانحراف السياسي وتتمثل في تحويل الاُمويين للخلافة إلي ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويوزّعون فيه المناصب الحكومية علي ذويهم وأقاربهم.

لقد عاش (عليه السلام) محنة عداء الاُمويين للعلويين والذي تمثل في ظاهرة سبّهم لجدّه الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) علي المنابر طيلة ستة عقود.

5 ـ ومن الأحداث البارزة في حياة الإمام الباقر (عليه السلام) توالي الثورات المسلحة ضد الحكم الاُموي بعد واقعة كربلاء الخالدة، ففي سنة (63 هـ) ثار أهل المدينة في سنة (65 هـ) ثار التوابون، وفي سنة (66 هـ) ثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وثار الزبيريون، وفي سنة (77 هـ) ثار المطرّف بن المغيرة بن شعبة، وفي سنة (81 هـ) تمرّد عبد الرحمن بن



[ صفحه 49]



محمّد بن الأشعث علي حكومة عبد الملك بن مروان [4] .

6 ـ وانتشرت في هذه الفترة ظاهرة وضع الحديث المؤلمة فقد ركّز الاُمويون علي هذه الأداة لخدمة سلطانهم، حتّي روي ابن طرفة المعروف بنفطويه في تأريخه أن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة كانت في أيام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون اُنوف بني هاشم [5] .

7 ـ أما الانحراف الأخلاقي والاجتماعي فقد استشري في أوساط الاُمة حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه إذ كان يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والقرود ويقضي أوقاته بين المغنّين والمغنّيات وشاع عنه ذلك وعرفه عامّة الناس. وكان مروان بن الحكم أيضاً فاحشاً بذيئاً، كما كان أولاده وأحفاده علي شاكلته [6] .

وأشاع الاُمويّون بين المسلمين روح التعصّب فقرّبوا العرب وأبعدوا غير العرب وأثاروا الشعوبية فمزّقوا بذلك وحدة الصف الإسلامي وأثاروا الأحقاد وزرعوا بذور الشر في قلوب أبناء المجتمع الاسلامي.

8 ـ وعاش الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه المرحلة من حياته في ظلّ سيرة أبيه (عليه السلام) بكل وجوده الذي كان يركز نشاطه علي إعادة بناء المجتمع الإسلامي وتشييد دعائم العقيدة الاسلامية القويمة، حيث كان يحاول الإمام زين العابدين(عليه السلام) من خلال بثّ القيم العقائدية والأخلاقية عبر الأدعية وتوجيه رسائل الحقوق وما شابه ذلك صياغة كيان الجماعة الصالحة التي كان عليها أن تتولي عمليّة التغيير في المجتمع الذي راح يتردّي باستمرار.



[ صفحه 50]



وكان يشارك أباه السجّاد(عليه السلام) في أهدافه وخطواته وأساليبه المتعددة في المرحلة التي استغرقت ثلاثة وثلاثين عاماً والتي تمثّلت في الدعاء والانفاق والعتق والتربية المباشرة للرقيق والأحرار باعتبارها نشاطاً بارزاً للإمام زين العابدين(عليه السلام) خلال هذه المرحلة.

9 ـ وقف الإمام الباقر (عليه السلام) مواقف أبيه من الثورات والحركات المسلحة التي كانت تهدف إلي إسقاط النظام الفاسد إذ كان يرشدها ويقودها بصورة غير مباشرة من دون أن يعطي للحكام أي دليل يدل علي التنسيق من الإمام (عليه السلام) مع الثوّار ضد الحكم الاُموي الغاشم.

10 ـ وكان للإمام الباقر دور بارز وهو في ظلّ أبيه في حركته لتأسيس صرح العلم والمعرفة الاسلامية حيث كان يحضر المحافل العامة ليحدّث الناس ويرشدهم، كما كان يفسّر القرآن ويعلّم الناس الأحاديث النبويّة الشريفة ويثقّفهم بالسيرة النبويّة المباركة.

11 ـ ان التنصيص من الإمام السجّاد(عليه السلام) علي إمامة ابنه الباقر يعود تأريخياً الي النصوص التي وردت عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) والأئمة من بعده ونصّت علي إمامة اثني عشر إماماً بعد رسول الله كلهم من قريش وبني هاشم، وتداولها الصحابة والتابعون واستند اليها أهل البيت(عليهم السلام).

ومن تلك النصوص التي ورد فيها اسم الإمام الباقر(عليه السلام) بشكل خاص هو النص الذي رواه جابر بن عبدالله الأنصاري وقد جاء في هذا النص ما يلي:

«...فقال: يا رسول الله وَمَنْ الائمة من ولد علي بن أبي طالب؟ قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم سيد العابدين في زمانه عليّ بن الحسين، ثم الباقر محمد بن عليّ



[ صفحه 51]



وستدركه يا جابر، فاذا أدركته فاقرأه منّي السلام» [7] .

وجاء في نص آخر أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: «يولد لابني هذا ـ يعني الحسين ـ ابن يقال له: علي، وهو سيد العابدين... ويولد له محمد، اذا رأيته يا جابر فاقرأه(عليه السلام) منّي السلام، واعلم أنّ المهدي من ولده...» [8] .

وقد تناقل الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) الوصية إماماً بعد إمام، فقد أوصي الإمام علي (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام) قائلاً: «يا بنيّ إنه أمرني رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن أوصي اليك، وأدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصي اليّ ودفع اليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك اذا حضرك الموت أن تدفعها الي أخيك الحسين، ثم أقبل علي ابنه الحسين، فقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها الي ابنك هذا، ثم أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن تدفعها الي ابنك محمد بن علي فاقرأه من رسول الله ومنّي السلام» [9] .

12 ـ وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوجّه الانظار الي امامة ابنه الباقر(عليه السلام)، ويستثمر الفرص لإعلانها أمام أبنائه أو بعض أبنائه أو خاصّته وثقاته، يصرّح تارة بها ويلمّح إليها تارة اُخري.

فحينما سأله ابنه عمر عن سرّ اهتمامه بالباقر (عليهما السلام) أجابه: «انّ الإمامة في ولده الي أن يقوم قائمنا (عليه السلام) فيملأها قسطاً وعدلاً، وانه الإمام أبو الأئمة...» [10] .

وعن الحسين ابن الإمام زين العابدين (عليهما السلام) قال: سأل رجل أبي (عليه السلام) عن الائمة، فقال: «اثنا عشر سبعة من صلب هذا، ووضع يده علي كتف أخي محمد» [11] .



[ صفحه 52]



وكان يصرّح لابنه الباقر (عليهما السلام) بامامته ويقول له: «يا بنيّ انّي جعلتك خليفتي من بعدي» [12] .

وروي عن أبي خالد أ نّه قال: قلت لعليّ بن الحسين: من الإمام بعدك؟ قال: «محمّد ابني يبقر العلم بقراً» [13] .

وفي مرضه الذي توفي فيه سأله الزهري قائلاً: فإلي من نختلف بعدك؟ فأجاب(عليه السلام): «يا أبا عبد الله الي ابني هذا ـ وأشار الي محمد ابنه ـ انه وصيّي ووارثي وعيبة علمي ومعدن العلم وباقر العلم»، فقال له الزهري: يا ابن رسول الله هلاّ أوصيت إلي أكبر اولادك؟ فقال (عليه السلام): «يا أبا عبد الله ليست الامامة بالصغر والكبر، هكذا عهد الينا رسول الله(صلي الله عليه وآله) وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة» [14] .

وفي أيامه الأخيرة جمع الإمام زين العابدين (عليه السلام) أولاده: محمد والحسن وعبد الله وعمر وزيد والحسين، وأوصي الي ابنه محمد... وجعل أمرهم اليه [15] .

وفي الساعات الأخيرة من حياته التفت (عليه السلام) الي ولده وهم مجتمعون عنده، ثم التفت الي ابنه الباقر (عليه السلام) فقال: «يا محمد هذا الصندوق اذهب به الي بيتك». اما أنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكن كان مملوءاً علماً [16] .



[ صفحه 55]




پاورقي

[1] الفتوح: 5 / 153.

[2] تاريخ الخميس: 2 / 300.

[3] الكامل في التاريخ: 4 / 113.

[4] البداية والنهاية: 9 / 138.

[5] شرح نهج البلاغة: 9 / 138.

[6] المصدر السابق: 11 / 46.

[7] كفاية الأثر: 144 ـ 145.

[8] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 78، تاريخ اليعقوبي: 2 / 320، سير أعلام النبلاء: 4 / 404.

[9] إعلام الوري بأعلام الهدي: 207.

[10] كفاية الأثر: 237.

[11] المصدر السابق: 239.

[12] كفاية الأثر: 241.

[13] بحار الانوار: 46 / 320.

[14] كفاية الاثر: 243.

[15] كفاية الأثر: 239.

[16] الكافي: 1 / 305.