بازگشت

وقائع وأحداث هامة في عصر الإمام الباقر


إذا اردنا أن نقف علي ملامح المرحلة التي مارس فيها الإمام الباقر(عليه السلام) قيادته للاُمة الاسلامية بعد والده الإمام زين العابدين(عليهما السلام) وجب أن نقف علي أهم الأحداث التي مهّدت لتلك المرحلة ونلاحظ مدي علاقتها بالإمام الباقر(عليه السلام) كمرشّح للقيادة في حياة والده وممارس لها بعد ذلك.

لقد شُيّدت اُسس الحكم الاُموي المرواني أيام عبدالملك بن مروان باعتباره أوّل حاكم مقتدر للحكم المرواني. وقد رسمت إجراءاته السياسية ملامح المرحلة التي نريد دراستها.

قال بعض المؤرخين: إن عبدالملك بن مروان قبل أن يتقلد الخلافة كان يظهر النسك والعبادة، فلما بشر بالملك كان بيده المصحف الكريم فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فراق بيني وبينك [1] .

ولقد اتصف عبدالملك بأخس الصفات وأحطها والتي كان من بينها:

1 ـ الطغيان والجبروت: قال المنصور: كان عبدالملك جباراً لا يبالي ما صنع [2] وكان فاتكاً لا يعرف الرحمة والعدل، وقد قال: في خطبته بعد قتله



[ صفحه 66]



لابن الزبير: لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه [3] ، وهو أول من نهي عن الكلام بحضرة الخلفاء [4] .

2 ـ الغدر ونكث العهد: فقد أعطي الأمان لعمرو بن سعيد الأشدق علي أن تكون الخلافة له من بعده إلا أنه غدر به، وقتله ورمي برأسه الي أصحابه [5] ولم يرع وشيجة النسب التي كانت تربطه بعمرو.

لقد خاف عبدالملك من الأشدق، إذ لو كان حياً لاتّخذ التدابير للقضاء علي حكم بني مروان ولكن عبدالملك تغدّي به قبل أن يتعشي به عمر، وقد انتقم الله منه; لأنه كان جباراً مسرفاً في إراقة دماء المسلمين وإشاعة الخوف والرعب فيهم.

3 ـ القسوة والجفاء: حيث انعدمت من نفسه الرحمة والرأفة، حتي أ نّه بالغ في إراقة الدماء وسفكها بغير حق، وقد اعترف بذلك هو حين قالت له أم الدرداء: بلغني أنك شربت الطِلي ـ يعني الخمر ـ بعد العبادة والنسك، فقال لها غير متأثم: «اي والله والدماء شربتها» [6] .

وقد نشر الثكل والحزن والحداد في بيوت المسلمين أيام حكمه الرهيب حتي أنّه خطب في يثرب بعد قتله لابن الزبير خطاباً قاسياً أعرب فيه عما كان يحمله في قرارة نفسه من القسوة والسوء قائلاً: «إني لا اُداوي أدواء هذه الاُمة إلاّ بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم...» [7] .



[ صفحه 67]



4 ـ البخل: فكان يسمي (رشح الحجارة) لشدة شحه وبخله [8] وقد عانت الاُمة في أيام حكمه الجوع والفقر والحرمان.

من بدع عبدالملك: خاف عبدالملك أن يتصل ابن الزبير بأهل الشام فيفسدهم عليه فمنعهم من الحج، فقالوا له: أتمنعنا من الحج وهو فريضة فرضها الله، فقال: قال ابن شهاب الزهري انّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) قال: لا تشد الرحال إلاّ إلي ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس.

وصرفهم بذلك عن الحج الي بيت الله الحرام، وصيره الي بيت المقدس وقد استغل الصخرة التي فيه، وروي فيها أن رسول الله(صلي الله عليه وآله) قد وضع قدمه عليها حين صعوده الي السماء فأقامها لهم مقام الكعبة فبني عليها قبة وعلي فوقها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأمر الناس أن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة [9] .

وانتقص عبدالملك سلفه من حكام بني اُمية، وقد أدلي بذلك في خطابه الذي ألقاه في يثرب، إذ جاء فيه: «إني والله ما أنا بالخليفة، المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون [10] ـ يعني يزيد».

وعلّق ابن أبي الحديد علي هذه الكلمات بقوله: «وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرياسة، ولولا العادة المتقدمة، والأجناد المجندة والصنائع القائمة، لكان أبعد خلق الله من ذلك



[ صفحه 68]



المقام، وأقربهم الي المهلكة إن رام ذلك الشرف...» [11] .

من جرائم عبدالملك: وأخطر عمل قام به عبدالملك توليته للسفّاك المعروف الحجّاج بن يوسف الثقفي، فقد عهد باُمور المسلمين إلي هذا الانسان الممسوخ الذي اشتهر بقساوته وشهوته في إراقة الدماء.

لقد منحه عبدالملك صلاحيات واسعة النطاق، فجعله يتصرف في اُمور الدولة حسب رغباته التي لم تكن تخضع إلاّ لمنطق البطش والاستبداد، وقد أمعن هذا الأثيم في النكاية بالناس، وقهرهم وإذلالهم، وقد خلق في البلاد الخاضعة لنفوذه جواً من الأزمات السياسية التي لا عهد للناس بمثلها.

ونقم علماء المسلمين وخيارهم علي الحجاج، وكان عمر بن عبدالعزيز من الناقمين علي الحجاج، والساخطين عليه، حتي قال فيه: «لو جاءت كل اُمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم» [12] .

وقال عاصم: «ما بقيت لله عزّ وجل حرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج [13] .

وقال طاووس: «عجبت لمن يسمي الحجاج مؤمناً» [14] .

وقال ابن عماد الحنبلي عنه: «سنة خمس وتسعين فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة علي الاُمة... كان لا يصبر عن سفك الدماء وانه اكبر لذّاته وله مقحمات عظام» [15] .

ولما أراد الحج ولّي علي العراق شخصاً اسمه محمد، وقد خطب بين الناس فقال لهم: إني قد استعملت عليكم محمداً، وقد أوصيته فيكم خلاف



[ صفحه 69]



وصية رسول الله(صلي الله عليه وآله) بالأنصار فانه قد أوصي أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم...» [16] .

وقال الدميري: «كان الحجاج لا يصبر عن سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أ نّ اكبرَ لذّاته إراقته للدماء، وارتكاب امور لا يقدر عليها غيره» [17] .

وقد بالغ في قتل الناس بغير حق، فقد كان عدد من قتلهم صبراً ـ سوي من قتل في حروبه ـ مائة وعشرين ألفاً [18] وقيل مائة وثلاثين ألفاً [19] .

وقد اعترف رسمياً بسفكه للدماء بغير حق فقد قال: «والله ما أعلم اليوم رجلاً علي ظهر الأرض هو أجرأ علي دم مني» [20] .

وانكر عليه عبدالملك إسرافه في ذلك إلا أنه لم يعن به [21] .

وقد وضع سيفه في رقاب القرّاء والعبّاد لأنهم أيدوا ثورة ابن الأشعث، وكان من جملة من قتلهم صبراً سعيد بن جبير أحد أبرز علماء الكوفة وزهادها، ولما بلغ الحسن البصري نبأ قتله قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها الي مغربها محتاجون لعلمه [22] .

وحكم جماعة من أعلام المسلمين بكفره وإلحاده، منهم سعيد بن جبير النخعي، ومجاهد، وعاصم بن أبي النجود، والشعبي وغيرهم [23] .



[ صفحه 70]



وذلك لأنّ الحجاج قد استهان بالنبي العظيم(صلي الله عليه وآله) حتي فضّل عبدالملك ابن مروان عليه وذلك حين خاطب الله تعالي أمام الناس قائلاً: «أرسولك أفضل ـ يعني النبي ـ أم خليفتك ـ يعني عبدالملك؟ [24] .

وكان ينقم ويسخر من الذين يزورون قبر النبي(صلي الله عليه وآله) ويقول: «تبّاً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هـلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبدالملك، ألا يعلمون أ نّ خليفة المرء خير من رسوله؟! [25] .

وحفل حكم هذا الخبيث بالجرائم والموبقات فقد نكّل بشيعة آل البيت(عليهم السلام) وأذاع فيهم القتل، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد، في الوقت الذي كان عبدالملك قد كتب اليه: «جنبني دماء بني عبدالمطلب فليس فيها شفاء من الحرب، وإني رأيت آل بني حرب قد سُلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي» [26] .

ولكن الحجاج قد تعرض للعلويين وشيعتهم فانطلقت يده في الفتك بهم وسفك دمائهم حتي أن الرجل كان أحب اليه أن يقال له زنديق من أن يقال له من شيعة علي [27] وقال المؤرخون: إن خير وسيلة للتقرب الي الحجاج كانت انتقاص الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) عنده فقد أقبل إليه بعض المرتزقة من أوغاد الناس وأجلافهم وهو رافع عقيرته قائلاً:

«أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا الي صلة الأمير محتاج...». فسرّ الحجاج بذلك وقال: «للطف ما توسلت به، فقد



[ صفحه 71]



وليتك موضع كذا» [28] .

وعلي أي حال فقد أصبح أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في عهد هذا الجلاّد طعمة للسيوف والرماح، إذ نكّل بهم وقتلهم ولاحقهم تحت كل حجر ومدر وأودع الكثيرين منهم السجون، وأثار جوّاً من الارهاب، لم نشهد له مثيلاً حتي في أيام الطاغية زياد بن أبيه وابنه عبيد الله.

وامتُحنت الكوفة في أيام هذا الجبار كأشد ما تكون المحنة، فقد أخذ يقتل علي الظنة والتهمة، وخطب في الكوفة خطاباً قاسياً، لم يحمد الله فيه، ولم يثن عليه، ولم يصلّ علي النبي(صلي الله عليه وآله) وكان من جملة ما قال فيه:

«يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، والنفاق، والمراق، ومساوئ الاخلاق ان امير المؤمنين ـ يعني عبدالملك ـ فتل كنانته فعجمها عوداً عوداً، فوجدني من أمرّها عوداً، وأصعبها كسراً، فرماكم بي، وانه قلدني عليكم سوطاً وسيفاً، فسقط السوط وبقي السيف [29] ثم قال: إني والله لأري أبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أينعت، وحان قطافها، وإني أنا صاحبها كأني أنظر الي الدماء ترقرق بين العمائم واللحي [30] ثم أنشد:



أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متي أضع العمامة تعرفوني



ومن جرائم هذا الطاغية: انه قاد جيشاً مكثفاً الي مكة لمحاربة ابن الزبير، وقد حاصر البيت الحرام ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وقد أمر برمي الكعبة المشرفة فرميت من جبل أبي قبيس بالمنجنيق [31] .



[ صفحه 72]



واتخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حر ولا برد، وكان يعذب المساجين بأقسي ألوان العذاب، حتي قال المؤرخون: انه مات في حبسه خمسون الف رجل، وثلاثون الف امرأة منهن ستة عشر الفاً مجردات وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد [32] واحصي في محبسه ثلاث وثلاثون الف سجين لم يحبسوا في دَيْن ولا تبعة [33] وكان يقول لأهل السجن: «اخسأوا فيها ولا تكلمون» [34] تشبيهاً لهم بأهل النار، وتشبيهاً لنفسه بالخالق تعالي، عتواً وتكبراً منه.

وتلقي المسلمون نبأ وفاته بمزيد من السرور والأفراح، وكانت الشتائم تلاحقه من يوم وفاته حتي يرث الله الأرض ومن عليها.


پاورقي

[1] تاريخ ابن كثير: 8 / 260.

[2] النزاع والتخاصم للمقريزي: 8.

[3] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 219.

[4] المصدر السابق: 218.

[5] تاريخ اليعقوبي: 2 / 190، ط 1، الأعلمي بيروت، 1413 هـ.

[6] مختصر تاريخ دمشق: 15 / 219، ترجمة عبدالملك بن مروان رقم 210.

[7] تاريخ ابن كثير: 9 / 64.

[8] تاريخ القضاعي: 72.

[9] اليعقوبي: 2 / 311.

[10] المأفون: الضعيف الرأي.

[11] شرح ابن أبي الحديد: 15 / 257.

[12] نهاية الإرب: 21 / 334.

[13] تاريخ ابن كثير: 9 / 132.

[14] تهذيب التهذيب: 2 / 311.

[15] شذرات الذهب: 1 / 106 ـ 107.

[16] مروج الذهب: 3 / 86.

[17] حياة الحيوان للدميري: 1 / 167.

[18] تهذيب التهذيب: 2 / 211، تيسير الوصول: 4 / 31، التنبيه والاشراف: 318، معجم البلدان: 5 / 349.

[19] حياة الحيوان: 1 / 170، تاريخ الطبري.

[20] طبقات ابن سعد: 6 / 66.

[21] مروج الذهب: 3 / 74.

[22] حياة الحيوان: 1 / 171.

[23] تهذيب التهذيب: 2 / 211.

[24] النزاع والتخاصم للمقريزي: 27، رسائل الجاحظ: 297.

[25] شرح النهج: 15 / 242.

[26] العقد الفريد: 3 / 149.

[27] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 43 ـ 44، تاريخ الشيعة: 40.

[28] حياة الإمام الحسن بن علي: 2 / 336.

[29] تاريخ اليعقوبي: 3 / 68.

[30] مروج الذهب: 3 / 68.

[31] تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: 4 / 50، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 84، تاريخ ابن كثير: 9 / 63.

[32] حياة الحيوان للدميري: 1 / 170.

[33] معجم البلدان: 5 / 349.

[34] تهذيب التهذيب: 2 / 212.