بازگشت

حمل الإمام الباقرالي دمشق واعتقاله


لقد أمر الطاغية هشام عاملَه علي المدينة بحمل الإمام الي دمشق وقد روي المؤرخون في ذلك روايتين:

الرواية الاُولي: ان الإمام(عليه السلام) لما انتهي الي دمشق، وعلم هشام بقدومه أوعز الي حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه.

ودخل الإمام(عليه السلام) علي هشام فسلم علي القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل علي الإمام(عليه السلام) فقال له:

«يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا الي نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...».

ثمّ سكت هشام فأنبري عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمام(عليه السلام) فقال:

«أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدي الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...» [1] .

وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسي، ولم يستطعيوا الرد علي منطقه القويّ.

وازدحم أهل الشام علي الإمام(عليه السلام) وهم يقولون: هذا ابن ابي تراب، فرأي الإمام أن يهديهم الي سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام



[ صفحه 89]



فيهم خطيباً، فحمد الله واثني عليه، وصلي علي رسول الله ثم قال:

اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها علي أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً...

ثم قال بعد كلام له:

أبِصِنْوِ رسول الله(صلي الله عليه وآله) ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـ تستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟

هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولي علي الغاية، وأحرز علي الختار [2] فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّي لهم التناوش [3] من مكان بعيد؟!

ثم قال: فأنّي يسدّ ثلمة أخي رسول الله(صلي الله عليه وآله) اذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة علي المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع الاسرار ساعة الوداع...» [4] .

ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه.

وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر الي هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلي بلده [5] .

الرواية الثانية: وهي التي رواها لوط بن يحيي الأسدي عن عمارة بن زيد



[ صفحه 90]



الواقدي حيث قال: حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين [6] ، وكان قد حج فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق(عليهما السلام) فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبدالملك:

«الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله علي خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا...».

وبادر مسلمة بن عبدالملك الي أخيه هشام فأخبره، بمقالة الإمام الصادق(عليه السلام) فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعاً الي دمشق أمر عامله علي يثرب بإشخاصهما إليه ولما انتهيا الي دمشق حجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلساً مكتظاً بالاُمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً [7] وأشياخ بني اُمية يرمونه.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه» فنادي هشام:

«يا محمد ارم مع أشياخ قومك».

فقال أبي: «قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني».

فصاح هشام: «وحقّ من أعزّنا بدينه، ونبيّه محمّد لا أعفيك...».

وظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ الي شيخ من بني اُمية أن يناول الإمام(عليه السلام) قوسه. فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمي به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمي به فشق السهم الأول الي نصله.



[ صفحه 91]



وتابع الإمام الرمي حتي شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم. وأخذ هشام يضطرب من الغيظ، وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح:

«يا أبا جعفر أنت أرمي العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!» ثم ادركته الندامة علي تقريظه للإمام، فأطرق برأسه الي الأرض والإمام واقف. ولما طال وقوفه غضب(عليه السلام) وبان ذلك علي سحنات وجهه الشريف. وكان إذا غضب نظر الي السماء.

ولمّا بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: «يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، مادام فيها مثلك. لله درك!! مَن علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟...».

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنا لنحن نتوارث الكمال».

وثار الطاغية، واحمرّ وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطرق برأسه الي الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: «ألسنا بنو عبدمناف نسبنا ونسبكم واحد؟».

ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً: «نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سرّه، وخالص علمه بما لم يخص به أحداً غيرنا».

وطفق هشام قائلاً: «أليس الله بعث محمداً(صلي الله عليه وآله) من شجرة عبدمناف الي الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث الي الناس كافة، وذلك قول الله عزّ وجل: (ولله ميراث السموات والأرض)؟ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيّ، ولا أنتم أنبياء؟!»

وردّ عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً: من قوله تعالي لنبيّه(لا تحرك به لسانك



[ صفحه 92]



لتعجل به) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالي أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآنا في قوله: (وتعيها اُذن واعية) فقال رسول الله: سألت الله أن يجعلها اُذنك يا علي، فلذلك قال علي: علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصّه به النبي من مكنون سرّه، كما خصّ الله نبيّه، وعلّمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتي صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا».

والتاع هشام من هذا الجواب، فالتفت الي الإمام ـ وهو غضبان ـ قائلاً: إنَّ عليّاً كان يدّعي علم الغيب والله لم يطلع علي غيبه أحداً، فكيف ادّعي ذلك؟ ومن أين؟

فأجابه الإمام قائلاً: «إن الله أنزل علي نبيّه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون الي يوم القيامة في قوله تعالي: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وفي قوله تعالي: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وفي قوله تعالي: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)وفي قوله تعالي: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) وأوحي الله الي نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه، ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولّي غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام علي أصحابي وقومي أن ينظروا الي عورتي غير أخي علي، فانه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما عليّ، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامّه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله: «أقضاكم علي» أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره!».

وأطرق هشام برأسه الي الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد علي الإمام، فقال له: «سل حاجتك».

قال الإمام(عليه السلام): «خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي».



[ صفحه 93]



قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك» [8] .

وهذه الرواية لم تشر الي ما جري علي الإمام من الاعتقال في دمشق، ولكنها تشير الي خروج الإمام من المدينة في حالة غير طبيعية بحيث استوحش أهله من خروجه.


پاورقي

[1] بحار الأنوار: 11 / 75.

[2] الختار: الغدر.

[3] التناوش: التناول.

[4] مناقب آل أبي طالب: 4 / 203 ـ 204.

[5] بحار الأنوار: 11 / 75.

[6] ذكر اليعقوبي أن هشاماً حجّ سنة 106 هجرية.

[7] البرجاس: جاء في معجم المعرّبات الفارسية: أن (البرجاس) هدف، «شي في الهواء، معلّق علي رأس رمح أو نحوه» وهو معرّب ويراد به: هدف السهم.

[8] دلائل الإمامة: 104 ـ 106.