بازگشت

مع هشام بن عبدالملك


شاءت الظروف تنحية الأئمة عليهم السلام عن مناصبهم التي نصبهم الله فيها و رسوله، و جعلهم أجلاس بيوتهم لا يأمرون و لا ينهون، و الأمر و الحكم لأبناء الطلقاء، و أحفاد الوزغ و لم يكتف الحكام الظالمين من الأئمة بغصبهم مقامهم، و أخذهم حقهم، حتي تتبعوهم قتلا و حبسا و تشريدا، حتي قال الامام زين العابدين: لو أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصية بنا لما زادوا علي ما فعلوا [1] .

عاصر الامام أبوجعفر عليه السلام عددا من الحكام الأمويين، و كان أشد دور مر عليه هو دور هشام بن عبدالملك، فقد قتل أخاه زيدا، و سحبه الي الشام، و أسمعه ما يكره.

و قد نقل المؤرخون بعض ما دار بين الامام عليه السلام و هشام من الأسئلة و المحاورات و الحوادث و تمشيا في خطتنا في هذه السلسلة من الاختصار، نذكر حادثة وقعت للامام عليه السلام مع هشام تتجلي بها عظمة الأئمة عليهم السلام، و سبقهم الناس الي كل فضيلة و كمال.

قال الامام الصادق عليه السلام: أنفذ هشام بريدا الي عامل المدينة بأشخاص أبي، فاشخصنا معه، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثا، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فدخلنا و اذا قد قعد علي سرير الملك، و جنده و خاصته وقوف علي أرجلهم سماطان مسلحان، و قد نصب البرجاس حذاه و أشياخ قومه يرمون، فلما دخلنا و أبي امامي و أنا خلفه، فنادي أبي و قال: يا محمد ارم مع أشياخ قومك الغرض.



[ صفحه 386]



فقال له: اني قد كبرت عن الرمي، فهل رأيت أن تعفيني؟

فقال: و حق من أعزنا بدينه و نبيه محمد صلي الله عليه و آله و سلم لا أعفيك.

ثم أومأ الي شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ، ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ثم انتزع ورمي وسط الغرض، فنصبه فيه، ثم رمي فيه الثانية فشق فوق سهمه الي نصله، ثم تابع الرمي حتي شق تسعة أسهم بعضا في جوف بعض و هشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك الي أن قال، أجدت يا أباجعفر و أنت أرمي العرب و العجم هلا زعمت أنك كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة علي ما قال، و كان هشام لم يكن أحدا قبل أبي و لا بعده في خلافته، فهم به، و أطرق الي الأرض اطراقة يتروي فيه، و أبي واقف حذاه، مواجهين له، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به، و كان أبي عليه السلام اذا غضب نظر الي السماء نظر غضبان يري الناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام الي ذلك من أبي قال له: الي يا محمد، فصعد أبي الي السرير و أنا أتبعه، فلما دنا من هشام قام اليه و اعتنقه و أقعده عن يمينه، ثم اعتنقني و أقعدني عن يمين أبي، ثم اقبل علي أبي بوجهه فقال له: يا محمد لا تزال العرب و العجم يسودها قريش مادام فيهم مثلك لله درك، من علمك هذا الرمي، و في كم تعلمته؟

فقال أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثني ثم تركته، فما أراد أميرالمؤمنين مني ذلك عدت فيه.

فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، و ما ظننت أن في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي، أيرمي جعفر مثل رميك؟

فقال: أنا نحن نتوارث الكمال و التمام اللذين أنزلهما الله علي نبيه صلي الله عليه و آله و سلم في قوله: «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا» و الأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر غيرنا عنها.

قال: فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمني فاحولت، و احمر وجهه، و كان ذلك علامة غضبه اذا غضب، ثم أطرق هنيئة، ثم رفع رأسه فقال لأبي: ألسنا بنو عبدمناف نسبنا و نسبكم واحد؟



[ صفحه 387]



فقال أبي: نحن كذلك، و لكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره، و خالص علمه، بما لم يخص أحدا به غيرنا.

فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلي الله عليه و آله و سلم من شجرة عبدمناف الي الناس كافة، ابيضها و اسودها و احمرها، من أين ورثتم ما ليس لغيركم، و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مبعوث الي الناس كافة، و ذلك قول الله تبارك و تعالي: «و لله ميراث السموات و الأرض» الي آخر الآية، فمن أين ورثتم هذا العلم، و ليس بعد محمد نبي، و لا أنتم أنبياء؟

فقال: من قوله تعالي لنبيه عليه السلام: «لا تحرك به لسانك لتعجل به» الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان ناجي أخاه عليا من دون أصحابه، فأنزل الله بذلك قرآنا في قوله: «و تعيها أذن واعية» فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لأصحابه: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة: علمني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب، فكما خص الله نبيه صلي الله عليه و آله و سلم خص نبيه أخاه عليا من مكنون سره، بما لم يخص به أحدا من قومه، حتي صار الينا فتوارثناه من دون أهلنا.

فقال هشام بن عبدالملك: ان عليا كان يدعي علم الغيب، والله لم يطلع علي غيبه أحدا، فمن أين ادعي ذلك؟

فقال أبي: ان الله جل ذكره أنزل علي نبيه صلي الله عليه و آله و سلم كتابا بين فيه ما كان و ما يكون الي يوم القيامة، في قوله تعالي: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين» و في قوله: «و كل شي ء أحصيناه في امام مبين» و في قوله: «ما فرطنا في الكتاب من شي ء» و أوحي الله الي نبيه أن لا يبقي في غيبه و سره و مكنون علمه شيئا الا يناجي به عليا، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، و يتولي غسله و تكفينه و تحنيطه من دون قومه، و قال لأصحابه: حرام علي أصحابي و أهلي أن ينظروا الي عورتي غير أخي علي، فانه مني و أنا منه، له ما لي و عليه ما علي، و هو قاضي ديني، و منجز وعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، و لم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله و تمامه الا عند علي عليه السلام، و لذلك



[ صفحه 388]



قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لأصحابه: أقضاكم علي، أي هو قاضيكم، و قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر و يجحده غيره.

فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك؟

فقال: خلفت عيالي مستوحشين لخروجي.

فقال: قد آنس الله وحشتهم برجوعك اليهم، و لا تقم، سر من يومك، فاعتنقه أبي و دعا له، و فعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض و نهضت معه و خرجنا [2] .



[ صفحه 389]




پاورقي

[1] انظر الكتاب الرابع من هذه السلسلة.

[2] بحارالأنوار: 11 / 88.