بازگشت

مناظرات الامام الباقر


لقد كان موضوع المتعة متفقا عليه و لا خلاف فيه الي بعض من خلافه عمر بن الخطاب، و حينما نهي عمر عن المتعة حصل خلاف بين المسلمين، فمنهم من اعتمد نهي عمر و تحريمه و وضع جانبا ما جاء به القرآن الكريم في الشأن و ما عمل به المسلمون في حياة رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم و في خلافة أبي بكر و في قسم من خلافة عمر، و لا أدري كيف فسروا التحريم هذا؟ و حينما توضح للقائلين بتحريمه كيف أباحه الله و رسوله و جمع كبير من الصحابة حتي بعد تحريم عمر لذلك، تري الحجج واهية و الرد عليها مقنع لولا العناد، و حينما يتراءي لهم احراج المناظر اياهم يقولون له: أترضي أن أختك أو ابنتك يتمتعها أحد من الناس؟ و هذا ما حصل مع الامام محمد الباقر عليه السلام.

فقد روي أن عبدالله بن معمر الليثي قال لأبي جعفر الباقر عليه السلام: بلغني أنك تفتي في المتعة؟

فقال عليه السلام له: أحلها الله في كتابه، و سنها رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و عمل بها أصحابه.



[ صفحه 149]



فقال عبدالله بن معمر: فقد نهي عنها عمر.

قال عليه السلام: فأنت علي قول صاحبك، و أنا علي قول رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم.

قال عبدالله: فيسرك أن نساءك فعلن ذلك؟

قال الامام الباقر عليه السلام: و ما ذكر النساء هيهنا يا أنوك (أي يا أحمق)، ان الذي أحلها في كتابه، و أباحها لعباده، أغير منك و ممن نهي عنها تكلفا، بل: يسرك أن بعض حريمك تحت حايك من حاكة يثرب نكاحا؟

قال: لا، فقال له الامام عليه السلام: فلم تحرم ما أحل الله؟ قال: لا أحرم، ولكن الحايك ما هو بكفؤ.

قال عليه السلام: فان الله أرضي عمله، و رغب فيه و زوجه حورا، أفترغب عمن رغب الله فيه، و تستنكف ممن هو كفؤ لحور الجنان، كبرا و عتوا؟

قال الراوي: فضحك عبدالله و قال: ما أحسب صدوركم الا منابت أشجار العلم، فصار لكم ثمره، و للناس ورقه.

كانت هذه الحادثة قد مرت علي بال محمد و هو جالس في الغرفة بانتظار أبناءه من كتابة واجباتهم، كي يحدثهم عن مناظرات الامام الباقر عليه السلام، و ما كان يتعرض اليه من الأذي، جهلا منهم و أغواء من الشيطان.

و ما أن أنهي الأبناء واجباتهم حتي جلسوا حول أبيهم، فبدأ الأب بالقول:

يروي أن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام كان يخاصم الامام



[ صفحه 150]



محمد الباقر عليه السلام في ميراث رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و يقول: أنا من ولد الحسن، و أولي بذلك منك، لأني من ولد الأكبر فقاسمني ميراث رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و ادفعه الي.

و قد روي عن أبي عبدالله عليه السلام حول ذلك فقال: فأتي أبي عليه السلام فخاصمه الي القاضي، فكان زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام يختلف معه الي القاضي (أي أنه يحضر نيابة عن الامام الباقر أمام القاضي)، فبينا هم كذلك ذات يوم في خصومتهم، اذ قال زيد بن الحسن لزيد بن علي: اسكت يابن السندية، فقال زيد بن علي: أف لخصومة يذكر فيها الأمهات، و الله، لا كلمتك بالفصيح من رأسي أبدا، حتي أموت، و انصرف زيد بن علي الي الامام الباقر عليه السلام، فقال: يا أخي، اني حلفت يمينا ثقة بك، و علمت أنك لا تكرهني، حلفت أن لا أكلم زيد بن الحسن، و لا أخاصمه، و ذكر ما كان بينهما، فأعفاه الامام عليه السلام.

اغتنم زيد بن الحسن هذه الفرصة، فقال: يلي خصومتي محمد بن علي (الباقر عليه السلام)، فأعيبه و أؤذيه فيعتدي علي.

ثم قال أبي عبدالله: فعدل علي أبي، فقال: بيني و بينك القاضي، فقال له عليه السلام: انطلق بنا، فلما أخرجه قال أبي: ان معك سكينة قد اختفيتها، أرأيتك ان نطقت هذه السكينة التي تسترها مني فشهدت أني أولي بالحق منك فتكف عني؟ قال زيد بن الحسن: نعم، و حلف له بذلك، فقال أبي عليه السلام: أيتها السكينة انطقي باذن الله، فوثبت السكينة من يد زيد بن الحسن علي الأرض، ثم قالت: يا زيد، أنت ظالم، و محمد أحق منك و أولي، و لئن لم تكف لألين قتلك.



[ صفحه 151]



فخر زيد علي الأرض مغشيا عليه، فأخذ أبي بيده فأقامه، ثم قال عليه السلام:

يا زيد، ان أنطقت الصخرة التي نحن عليها أتقبل؟ قال زيد بن الحسن: نعم.

فرجفت الصخرة التي مما يلي زيد، حتي كادت تفلق، و لم ترجف مما يلي أبي، ثم قالت: يا زيد أنت ظالم، و محمد أولي بالأمر منك، فكف عنه و الا وليت قتلك.

فخر زيد مغشيا عليه، فأخذ أبي بيده و أقامه، ثم قال: يا زيد أرأيت ان نطقت هذه الشجرة تكف؟ قال زيد: نعم.

قال أبوعبدالله عليه السلام: فدعي أبي عليه السلام الشجرة: فأقبلت تخر الأرض حتي أظلتهم، ثم قالت: يا زيد أنت ظالم، و محمد أحق بالأمر منك، فكف عنه و الا قتلتك، فغشي علي زيد، فأخذ أبي بيده، فانصرفت الشجرة الي موضعها.

قال الامام أبوعبدالله عليه السلام: فحلف زيد أن لا يعرض لأبي، و لا يخاصمه، و خرج زيد من يومه الي عبدالملك بن مروان (هشام بن عبدالملك) [1] فدخل عليه، و قال: أتيتك من عند ساحر كذاب، لا يحل لك تركه، و قص عليه ما رأي، و كتب (هشام) الي عامله علي المدينة أن ابعث الي محمد بن علي مقيدا، و قال لزيد بن الحسن: أرأيتك ان وليتك قتله قتلته؟ قال زيد: نعم.



[ صفحه 152]



فلما انتهي الكتاب الي العامل أجاب: ليس كتابي هذا خلافا عليك يا أميرالمؤمنين، و لا أرد أمرك، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب، نصيحة لك و شفقة عليك، و أن الرجل الذي أردته ليس اليوم علي وجه الأرض أعف منه، و لا أزهد و لا أورع منه، و أنه في محرابه فتجتمع الطير و السباع تعجبا لصوته، و أن قراءته تشبه مزامير داود عليه السلام، و أنه من أعلم الناس اجتهادا و عبادة، و كرهت لأميرالمؤمنين التعرض له، (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم).

فلما ورد الكتاب علي الخليفة سر بما انتهي اليه الوالي، و علم أنه قد نصحه، فدعي بزيد بن الحسن، فأقرأه الكتاب، فقال زيد: عطاه و أرضاه، فقال الخليفة: فهل تعرف أمرا غير هذا؟ قال زيد نعم، عنده سلاح رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم و سيفه و درعه و خاتمه و عصاه و تركته، فاكتب اليه فيه، فان هو لم يبعث به فقد وجدت الي قتله سبيلا، فكتب الي عامله أن أحمل الي أبي جعفر محمد بن علي ألف ألف درهم، و ليعطك ما عنده من ميراث رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم.

فأتي العامل فنزل الامام الباقر عليه السلام، فاقرأه الكتاب، فقال عليه السلام: أجلني أياما، فقال: نعم.

فقال الامام الصادق عليه السلام: فهيأ أبي متاعا ثم حمله و دفعه الي العامل، فبعث به الي عبدالملك (هشام بن عبدالملك) و سر به سرورا شديدا، فأرسل الي زيد بن الحسن، فعرض عليه، فقال زيد: ما بعث اليك من متاع رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم قليلا و لا كثيرا.

فكتب الخليفة الي أبي عليه السلام: انك أخذت مالنا و لم ترسل الينا بما طلبنا، فكتب اليه أبي عليه السلام: اني قد بعثت اليك بما قد رأيت، فان شئت كان ما طلبت، و ان شئت لم يكن.



[ صفحه 153]



فصدق الخليفة، و أظهر ذلك لأهل الشام، و قال: هذا متاع رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، قد أتيت به، ثم أخذ زيدا و قيده، و بعث به و قال: لولا أني أريد لا أبتلي بدم أحد منكم لقتلتك، و كتب الي أبي عليه السلام: بعثت اليك بابن عمك، فأحسن أدبه.

فلما أتي بزيد، أطلق الامام عليه السلام عنه و كساه... [2] .

كل ذلك و الأبناء قد فغروا أفواههم عجبا لحدوث ذلك بين بني الامام الحسن عليه السلام و بين بني عمومتهم من ولد الامام الحسين عليه السلام، و ما أن انتهي الأب من الحديث حتي قال الابن الأكبر: عجبا يا أبي أو يفعل ذلك زيد بن الحسن عليه السلام مع الامام محمد الباقر عليه السلام.

فقال الأب: هذا ما روي في التاريخ يا بني، كما و روي أيضا أن زيد بن الحسن عليه السلام كان قد تخلف عن عمه الحسين عليه السلام فلم يخرج معه الي العراق، و بايع بعد استشهاد عمه الحسين عليه السلام: عبدالله بن الزبير، لأن أخته لأمه و أبيه كانت تحت عبدالله بن الزبير، فلما قتل ابن الزبير أخذ زيد بيد أخته و رجع بها الي المدينة [3] .

كما و روي أيضا: ان زيد بن الحسن عليه السلام، ولي الصدقات في زمن الوليد بن عبدالملك، فنازعه فيها أبوهاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، فوفد زيد علي الوليد و أعلمه بأن لعبد الله في العراق شيعة، و هو يدعو الي نفسه، فكبر ذلك علي الوليد، فكتب الي عامله أن يولي زيد بن الحسن الصدقات، و يرسل اليه أباهاشم



[ صفحه 154]



عبدالله، فلما وصل الشام حبسه الوليد، و طال حبسه، فسعي علي بن الحسين عليه السلام في اطلاقه، و عرف الوليد افتراء زيد عليه [4] .

ثم تابع الأب حديثه مع أبنائه قائلا: ان أخطر ما كان يتعرض له أئمة أهل البيت عليهم السلام هو خوف الحكام في زمانهم علي الخلافة، و ظنهم بأن آل البيت يعملون علي انتزاعها منهم، و لذلك فأي سعاية من حسود أو طامع أو مبغض قد تؤدي بهم الي الموت سما، و هذا ما حصل بالفعل للأئمة من آل البيت عليهم السلام عدي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي اغتاله الخارجي عبدالرحمن بن ملجم المرادي، و الامام الحسين عليه السلام الذي قتله حكام بني أمية، و الامام المهدي المنتظر عليه من الله السلام و الحفظ و الأمان، و منا الرجاء في أن يظهره الله تعالي من جديد لقيم عدل الاسلام كما شاء الله له أن يقام، و يزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا، و يرزقنا الشهادة بين يديه.

الابن الأكبر: و هل تعرض الامام الباقر عليه السلام لشي ء من ذلك مع الحاكم الأموي غير الذي ذكرت يا أبي؟

الأب: نعم يا ولدي،: فقد روي أن في سنة من السنين حج هشام بن عبدالملك، و كان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر عليهم السلام و ابنه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فقال جعفر بن محمد عليه السلام: الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا، و أكرمنا به، فنحن صفوة الله علي خلقه، و خيرته من عباده و خلفائه، فالسعيد من اتبعنا، و الشقي من عادانا و خالفنا.



[ صفحه 155]



قال الامام الصادق عليه السلام: فأخبر مسلمة أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتي انصرف الي دمشق، و انصرفنا الي المدينة، فأنفذ بريدا الي عامل المدينة، بأشخاص أبي و أشخاصي، فلما وردنا مدينة دمشق، حجبنا ثلاثا، ثم أذن لنا في اليوم الرابع، فدخلنا، فاذا قد قعد علي سرير الملك، و جندة خاصة وقوف علي أرجلهم سماطان (جانبان) متسلحان، و قد نصب البرجاس [5] حذاه، و أشياخ قومه يرمون. فلما دخلنا و أبي أمامي و أنا خلفه نادي أبي و قال: يا محمد: ارم مع أشياخ قومك الغرض، فقال عليه السلام له: اني قد كبرت عن الرمي، فهل رأيت أن تعفيني؟ فقال: و حق من أعزنا بدينه و نبينا محمد صلي الله عليه وآله و سلم لا أعفيك.

ثم أومأ الي شيخ من بني أمية: أن أعطه قوسك، فتناول أبي عليه السلام عند ذلك قوس الرجل، ثم تناول منه سهما، فوضعه في كبد القوس، ثم انتزع و رمي وسط الغرض، فنصبه فيه، ثم رمي فيه الثانية، فشق فواق سهمه الي نصله، ثم تابع الرمي حتي شق تسعة أسهم، بعضها في جوف بعض.

فأخذ هشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت، أجدت يا أباجعفر، أنت أرمي العرب و العجم، كلا، زعمت أنك كبرت عن الرمي.

ثم أدركت هشام ندامة علي ما قال، و كان هشام لم يكن أحدا قبل أبي و لا بعده في خلافته، فأطرق الي الأرض اطراقة يتروي فيه، و أنا و أبي واقفان حذاءه، مواجهين له، فلما طال وقوفنا غضب أبي



[ صفحه 156]



فهم به، و كان أبي عليه السلام اذا غضب نظر الي السماء نظر غضبان، يري الناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام الي ذلك من أبي، قال له: الي يا محمد.

فصعد أبي عليه السلام الي السرير، و أنا أتبعه، فلما دني من هشام، قام اليه و اعتنقه، و أقعده عن يمينه، ثم اعتنقني، و أقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل علي أبي بوجهه فقال له: يا محمد، لا تزال العرب و العجم يسودها قريش، ما دام فيهم مثلك، لله درك، من علمك هذا الرمي؟ و في كم تعلمته؟

قال الامام الصادق عليه السلام: فقال أبي عليه السلام: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه، فتعاطيته أيام حداثني، ثم تركته، فلما أراد أميرالمؤمنين مني ذلك، عدت فيه.

فقال هشام: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، و ما ظننت أن في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي.

ثم قال هشام: أيرمي جعفر مثل رميك؟ فقال أبي عليه السلام: أنا نحن نتوارث الكمال و التمام اللذين أنزلهما الله علي نبيه محمد صلي الله عليه وآله و سلم في قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا)، و الأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.

فلما سمع هشام ذلك من أبي عليه السلام، انقلبت عينه اليمني فاحولت، و احمر وجهه، و كان ذلك علامة غضب، ثم أطرق هنيهة، ثم رفع رأسه، فقال لأبي عليه السلام: ألسنا بني عبد مناف نسبنا و نسبكم واحد.

فقال أبي عليه السلام: نحن كذلك، ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره و خالص علمه، بما لم يخص به أحدا غيرنا.



[ صفحه 157]



فقال هشام: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلي الله عليه وآله و سلم من شجرة بني عبد مناف الي الناس كافة، أبيضها و أسودها و أحمرها، من أين روثتم ما ليس لغيركم؟ و رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم مبعوث الي الناس كافة، و ذلك قول الله تبارك و تعالي: (و لله ميراث السموات و الأرض)، فمن أين ورثتم هذا العلم؟ و ليس بعد محمد نبي، و لا أنتم أنبياء.

قال الامام الصادق عليه السلام: فقال عليه السلام: من قوله تبارك و تعالي لنبيه: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا، أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان ناجي أخاه عليا دون أصحابه، فأنزل الله بذلك قرآنا، في قوله تعالي: (و تعيهآ أذن واعية)، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم لأصحابه: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة: علمني رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم ألف باب من العلم، ففتح من كل باب ألف باب، خصه رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم من مكنون سره، بما يخص أميرالمؤمنين، أكرم الخلق عليه، فلما خص الله نبيه، خص نبيه صلي الله عليه وآله و سلم أخاه عليا من مكنون سره، مما لم يخص به أحدا من قومه، حتي صار الينا، فتوارثناه من دون أهلنا.

فقال هشام: ان عليا كان يدعي علم الغيب، و الله لم يطلع علي غيبه أحدا، فمن أين ادعي ذلك؟

فقال عليه السلام: ان الله جل ذكره، أنزل علي نبيه صلي الله عليه وآله و سلم كتابا، بين فيه ما كان و ما يكون الي يوم القيامة في قوله تعالي: (و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين)، و في قوله تعالي: (و كل شي ء أحصيناه في امام مبين)، و في قوله تعالي: (ما فرطنا في الكتاب من شي ء)، و أوحي الله الي نبيه صلي الله عليه وآله و سلم أن لا يبقي في



[ صفحه 158]



غيبه و سره و مكنون علمه شيئا، ألا يناجي به عليا عليه السلام، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، و يتولي غسله و تكفينه و تحنيطه من دون قومه، و قال لأصحابه: حرام علي أصحابي و أهلي أن ينظروا الي عورتي، غير أخي، فانه مني و أنا منه، و عليه ما علي، و هو قاضي ديني، و منجز وعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل علي تأويل القرآن، كما قاتلت علي تنزيله، و لم يكن عند أحد تأويل القرآن، بكماله و تمامه الا عند علي، و لذلك قال رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم: أقضاكم علي، أي هو قاضيكم، و قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر، و يجحده غيره.

فأطرق هشام طويلا، ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك؟

قال الامام الصادق عليه السلام: قال أبي عليه السلام: خلفت عيالي و أهلي مستوحشين لخروجي.

فقال هشام: قد آنس الله وحشتهم برجوعك اليهم، و لا تقم، سر من يومك [6] .

فقال الابن الأكبر لأبيه: و هل كان خلفاء بني أمية يحملون علما يا أبي؟

الأب: اعلم يا ولدي أن ليس كل من حمل علما عمل به، فهناك الكثيرين في تاريخ الاسلام من رسخوا علمهم في مخالفة آل البيت النبوي الأطهار، و آخرين أولوا كتاب الله تعالي من أجل أن يرفعوا أناسا لا يستحقون ذلك، و لا كان لأي الذكر الحكيم فيهم





[ صفحه 159]



غير الذم و التأنيب، و غيرهم قد وضعوا أحاديث ما قالها رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم من أجل أن يرفعوا أصحابهم و من كانوا مشبعين أهواءهم و غرائزهم.

و مع كل ذلك، فلا يمكن أن نقيس أعلم الناس بأئمة آل البيت النبوي الأطهار، فهم من ورثوا علم رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و ما علم النبي محمد صلي الله عليه وآله و سلم الا من علم الله تعالي، و كمثال علي علمهم عليهم السلام ما كان من أمر الامام الباقر عليه السلام بعدما خرج من هشام بن عبدالملك.

فقد روي الامام الصادق عليه السلام فقال: نهض أبي و نهضت معه، و خرجنا الي بابه، و اذا ميدان ببابه و في آخر الميدان، أناس قعود عدد كثير، قال أبي عليه السلام: من هؤلاء؟ فقال الحجاب: القسيسون و الرهبان، و هذا عالم لهم، يقعد اليهم في كل سنة يوما واحدا، يستفتونه فيفتيهم.

فقال الامام الصادق عليه السلام: فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه، و فعلت أنا مثل فعل أبي، فأقبل نحوهم، حتي قعد نحوهم، و قعدت وراء أبي، و رفع ذلك الخبر الي هشام بن عبدالملك، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع، فينظر ما يصنع أبي، فأقبل و أقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، و أقبل عالم النصاري، قد شد حاجبه بحريرة صفراء، حتي توسطنا فقام اليه جميع القسيسيين و الرهبان مسلمين عليه، فجاؤوا به الي صدر المجلس، فقعد فيه، فأحاط به أصحابه و أبي و أنا بينهم، فأدار بنظره، ثم قال لأبي: أمنا، أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال عليه السلام: بل من هذه الأمة المرحومة، فقال لأبي عليه السلام: من أين أنت؟ من علمائها أم من



[ صفحه 160]



جهالها؟ فقال عليه السلام: لست من جهالها، فاضطرب عالم النصاري اضطرابا شديدا، ثم قال لأبي عليه السلام: أسألك؟ فقال أبي عليه السلام: سل، فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون و يشربون و لا يحدثون و لا يبولون؟ و ما الدليل فيما تدعونه من مشاهد لا يجهل؟

فقال أبي عليه السلام: دليل ما ندعي من مشاهد لا يجهل: الجنين في بطن أمه، يطعم و لا يحدث.

قال الامام الصادق عليه السلام: فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا، ثم قال: هلا زعمت انك لست من علمائها؟ فقال له أبي عليه السلام: انما قلت لك: لست من جهالها.

قال عليه السلام: و أصحاب هشام يسمعون ذلك، فقال لأبي عليه السلام: أسألك عن مسألة أخري؟ فقال أبي عليه السلام: سل.

فقال لأبي عليه السلام: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية، موجودة غير معدومة، عند جميع أهل الجنة؟ و ما الدليل علي ذلك من مشاهد لا يجهل؟

فقال له أبي عليه السلام: دليل ما ندعي أن سراجنا أبدا يكون غضا طريا موجودا غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع.

قال الامام الصادق عليه السلام: فاضطرب اضطرابا شديدا و قال: هلا زعمت انك لست من علمائها.

فقال له أبي عليه السلام: انما قلت لك: لست من جهالها.

فقال لأبي عليه السلام: أسألك عن مسألة؟ فقال عليه السلام: سل.

فقال: أخبرني عن ساعة، لا من ساعات الليل، و لا من ساعات النهار؟



[ صفحه 161]



فقال له أبي عليه السلام: هي الساعة التي بين طلوع الفجر الي طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلي، و يرقد فيها الساهر، و يفيق فيها المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين، و في الآخرة للعاملين، لها دليلا واضحا، و حجة بالغة علي الجاحدين المتكبرين، التاركين لها.

قال الامام الصادق عليه السلام: فصاح النصراني صيحة، ثم قال لأبي عليه السلام: بقيت مسألة واحدة، و الله، لأسألك عن مسألة لا تهتدي الي الجواب عنها أبدا.

قال له أبي عليه السلام: سل، فانك حانث في يمينك.

فقال النصراني: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد، و ماتا في يوم، عمر أحدهما خمسون سنة، و عمر الآخر مائة و خمسون سنة في دار الدنيا؟

فقال الامام الباقر عليه السلام: ذلك عزيز و عزيزة، ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة و عشرين عاما مر عزيز علي حماره راكبا: علي قرية أنطاكية، و هي خاوية علي عروشها، فقال: أني يحيي هذه الله بعد موتها، و قد كان اصطفاه و هداه، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه، فأماته الله مائة عام، سخطا عليه بما قال، ثم بعثه علي حماره بعينه، و طعامه و شرابه، و عاد الي داره، و عزيزة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه، و بعث اليه ولد عزيزة و ولد ولده، و قد شاخوا، و عزيز شاب في سن ابن خمس و عشرين سنة، فلم يزل عزيز يذكر أخاه و ولده و قد شاخوا، و هم يذكرون ما يذكرهم، و يقولون: ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون و الشهور، و يقول له عزيزة، و هو شيخ كبير ابن مائة و خمسة و عشرين سنة: ما رأيت شابا في سن خمس و عشرين سنة، اعلم بما كان بيني و بين



[ صفحه 162]



أخي عزيز أيام شبابي، منك، فمن أهل السماء أنت؟ أم من أهل الأرض؟

فقال: يا عزيزة، أنا عزيز، سخط الله علي بقول قلته، بعد أن اصطفاني، و هداني، فأماتني مائة سنة، ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا: ان الله علي كل شي ء قدير، و ها هو هذا حماري، و طعامي و شرابي، الذي خرجت به من عندكم، أعاده الله تعالي كما كان، فعندها أيقنوا، فاعاشه الله بينهم خمسة و عشرين سنة، ثم قبضه الله و أخاه في يوم واحد.

قال الامام الصادق عليه السلام: فنهض عالم النصاري عند ذلك قائما، و قام النصاري علي أرجلهم، فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني، و أقعدتموه معكم حتي هتكني، و فضحني، و أعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا، و عنده ما ليس عندنا، لا و الله، لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة، و لا قعدت لكم ان عشت سنة، فتفرقوا، و أبي عليه السلام قاعد مكانه، و أنا معه [7] .

و في رواية: ان الديراني (عالم النصاري)، أسلم مع أصحابه علي يديه عليه السلام، و رفع ذلك الخبر الي هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم، فلما تفرق الناس.

قال الامام الصادق عليه السلام: نهض أبي و انصرف الي المنزل الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام بالجائزة، و أمرنا أن نتصرف الي المدينة من ساعتنا، و لا نجلس، لأن الناس ماجوا و خاضوا في ما دار بين أبي و بين عالم النصاري، فركبنا دوابنا منصرفين.



[ صفحه 163]



و في رواية: أن هشام بن عبدالملك أمر بحبسه عليه السلام، فقالوا له: ان أهل الحبس قد تعلقت قلوبهم بحبه، فأرسلنا الي المدينة، و قد سبقنا بريد من عند هشام الي عامل مدين، علي طريقنا الي المدينة: أن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي و جعفر بن محمد، الكذابين فيما يظهران من الاسلام، وردا علي، و لما صرفتهما الي المدينة ما لا الي القسيسيين و الرهبان، من كفار النصاري، و أظهرا لهما دينهما، و مرقا من الاسلام الي الكفر و دين النصاري، و تقربا اليهم بالنصرانية، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما، فاذا قرأت كتابي هذا، فناد في الناس: برأت الذمة ممن يشاريهما، أو يبايعهما، أو يصافحهما، أو يسلم عليهما، فانهما ارتدا عن الاسلام، و رأي أميرالمؤمنين أن يقتلهما و دوابهما و غلمانهما و من معهما شر قتلة.

قال عليه السلام: فورد البريد الي مدينة مدين، فلما شارفنا علي مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلا، و يشتروا لدوابنا علفا، و لنا طعاما، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا و شتمونا، و ذكروا علي بن أبي طالب، فقالوا: لا نزول لكم عندنا، و لا شراء و لا بيع، يا كفار، يا مشركين، يا مرتدين، يا كذابين، يا شر الخلائق أجمعين.

ثم قال عليه السلام: فوقف غلماننا علي الباب، حتي انتهينا اليهم، فكلمهم أبي، و لين لهم القول، و قال لهم: اتقوا الله و لا تغلظوا، فلسنا كما بلغكم، و لا نحن كما يقولون، فاسمعونا، ثم قال عليه السلام لهم: فهبنا كما تقولوا، افتحوا لنا الباب، و شارونا و بايعونا، كما تشارون و تبايعون اليهود و النصاري و المجوس.



[ صفحه 164]



فقالوا: أنتم أشر من اليهود و النصاري و المجوس، لأن هؤلاء يؤدون الجزية، و أنتم ما تؤدون الجزية.

فقال لهم الامام الباقر عليه السلام: فافتحوا لنا الباب، و خذوا منا الجزية كما تأخذون منهم، فقالوا: لا نفتح، و لا كرامة لكم، حتي تموتوا علي ظهور دوابكم، جياعا نياعا [8] ، أو تموت دوابكم تحتكم.

قال الامام الصادق عليه السلام: فوعظهم أبي، فازدادوا عتوا و نشوزا، ثم قال عليه السلام: فثني أبي عليه السلام رجله عن سرجه، ثم قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد عليه السلام الجبل المطل علي المدينة، و أهل مدين ينظرون اليه ما يصنع، فلما صار في أعلاه، استقبل بوجهه المدينة وحده، ثم وضع اصبعيه في أذنيه، ثم نادي بأعلا صوته: و الي مدين أخاهم شعيبا... الي قوله تعالي: (بقيت الله خير لكم ان كنتم مؤمنين)، نحن و الله بقية الله في أرضه، فأمر الله ريحا سوداء مظلمة فهبت، و احتملت صوت أبي عليه السلام، فطرحته في أسماع الرجال و الصبيان و النساء، فما بقي أحد من الرجال و الصبيان و النساء الا صعد السطوح، و أبي مشرف عليهم و صعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين، كبير السن، فنظر الي أبي علي الجبل، فنادي بأعلي صوته: اتقوا الله يا أهل مدين، فانه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه السلام، حين دعي علي قومه، فان أنتم لم تفتحوا له الباب، و لم تنزلوه، جاءكم من العذاب، و اني أخاف عليكم، و قد أعذر من أنذر، ففزعوا و فتحوا الباب، فأنزلونا، و كتب بجميع ذلك الي هشام بن عبدالملك.



[ صفحه 165]



فارتحلنا في اليوم الثاني، فكتب هشام الي عامل مدين، يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله، و أخذوه فطموه رحمه الله.

و في رواية: ان هشام كتب الي عامل مدين: يحمل الشيخ اليه، فمات في الطريق، و كتب الي عامل مدينة الرسول صلي الله عليه وآله و سلم: أن يحتال في سم أبي عليه السلام، في طعام أو شراب، فمضي هشام و لم يتهيأ له في أبي عليه السلام من ذلك شي ء [9] .

فقال الابن الأكبر حينما وجد أن أباه قد صمت قليلا، و كان قد توقع منه أن ينهي الحديث: زدنا يا أبي؟

فقال الأب: يكفينا ما تحدثنا به اليوم يا ولدي، فالي غد ان شاء الله.



[ صفحه 166]




پاورقي

[1] الرواية ذكرت أنه عبدالملك بن مروان و قال المجلسي في البحار: لعله كان هشام بن عبدالملك، فسقط من الرواة أو الناسخ. «و نحن بدورنا كتبنا اسم هشام بين الأقواس، و أحيانا كتبنا بدل الأسماء (الخليفة) فليلاحظ الأخ القاري ء».

[2] رواه القطب الراوندي في الخرائج بأسناد معتبر عن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام.

[3] عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص 69.

[4] تاريخ ابن عساكر: ج 5، ص 46.

[5] البرجاس: شي ء ينصب علي رمح أو نحوه ليكون هدفا للرمي.

[6] روي ذلك ابن طاووس في آمان الأخطار بأسناد معتبر عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.

[7] رواية ابن طاووس في كتاب أمان الأخطار.

[8] النوع: بالضم، اتباع للجوع، و النايع: اتباع الجايع، و زعم بعضهم أن النوع: العطش. و النايع: العطشان.

[9] راجع جلاء العيون: للسيد عبدالله شبر، ج 3، ص 25 - 19.